فصل  
وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه ، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه ، وهذا كما قيل في الفاتحة : نزلت مرتين ، مرة  بمكة ،   وأخرى  بالمدينة ،   وكما ثبت في " الصحيحين " عن   أبي عثمان النهدي  عن   ابن مسعود  أن رجلا أصاب من امرأة قبلة      [ ص: 124 ] فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى : (  وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات      ) ( هود : 114 ) ، فقال الرجل : ألي هذا ؟ فقال : بل لجميع أمتي     . فهذا كان في  المدينة ،   والرجل قد ذكر  الترمذي     - أو غيره - أنه   أبو اليسر ،  وسورة هود مكية بالاتفاق ، ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا ، ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة .  
ومثله ما في " الصحيحين " عن   ابن مسعود     : في قوله تعالى : (  ويسألونك عن الروح      ) ( الإسراء : 85 ) أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في  المدينة ،   ومعلوم أن هذه في سورة " سبحان " وهي مكية بالاتفاق ، فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك  بمكة   وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك ، فأنزل الله الجواب كما قد بسط في موضعه .  
وكذلك ما ورد في (  قل هو الله أحد      ) ( الإخلاص : 1 ) أنها جواب للمشركين  بمكة ،    [ ص: 125 ] وأنها جواب لأهل الكتاب  بالمدينة      .  
وكذلك ما ورد في " الصحيحين " من حديث  المسيب     : " لما حضرت  أبا طالب  الوفاة ; وتلكأ عن الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  والله لأستغفرن لك ما لم أنه  فأنزل الله : (  ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى      ) ( التوبة : 113 ) ، وأنزل الله في  أبي طالب     : (  إنك لا تهدي من أحببت      ) ( القصص : 56 ) وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق ، وموت  أبي طالب  كان  بمكة ،   فيمكن أنها نزلت مرة بعد أخرى ، وجعلت أخيرا في " براءة " .  
والحكمة في   هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها ، فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا لهم بها ، وبأنها تتضمن هذه ، والعالم قد يحدث له حوادث فيتذكر أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له تلك الحادثة قبل ، مع حفظه لذلك النص .  
وما يذكره المفسرون من  أسباب متعددة لنزول الآية   قد يكون من هذا الباب ،      [ ص: 126 ] لا سيما وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : " نزلت هذه الآية في كذا " فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها أولا . وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند ، كما في قول   ابن عمر  في قوله تعالى : (  نساؤكم حرث لكم      ) ( البقرة : 223 ) ، وأما الإمام  أحمد  فلم يدخله في " المسند " وكذلك  مسلم  وغيره ، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل ، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					