[ ص: 115 ] النوع الأول  
معرفة أسباب النزول   
وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم ، وأفردوا فيه تصانيف ; منهم   علي بن المديني شيخ البخاري ،  ومن أشهرها تصنيف الواحدي في ذلك .  
 [ ص: 116 ] وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ ، وليس كذلك ، بل له      [ ص: 117 ] فوائد :  
منها وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم .  
ومنها تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب .  
ومنها الوقوف على المعنى ، قال الشيخ  أبو الفتح القشيري     : "  بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز      " ، وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا .  
ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما ، ويقوم الدليل على التخصيص ، فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد بالإجماع كما حكاه  القاضي أبو بكر  في " مختصر التقريب " ; لأن دخول السبب قطعي .  
ونقل بعضهم الاتفاق على أن لتقدم السبب على ورود العموم أثرا .  
ولا التفات إلى ما نقل عن بعضهم من تجويز  إخراج محل السبب بالتخصيص   لأمرين :  
أحدهما : أنه يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يجوز . والثاني : أن فيه عدولا عن محل السؤال ; وذلك لا يجوز في حق الشارع ; لئلا يلتبس على السائل . واتفقوا على أنه تعتبر النصوصية في السبب من جهة استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وتؤثر أيضا فيما وراء محل السبب ، وهو إبطال الدلالة على قول ، والضعف على قول .  
ومن الفوائد أيضا دفع توهم الحصر ، قال   الشافعي  ما معناه في معنى قوله تعالى : (  قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما      ) ( الأنعام : 145 ) الآية : إن الكفار لما حرموا ما أحل      [ ص: 118 ] الله ، وأحلوا ما حرم الله ، وكانوا على المضادة والمحادة فجاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ، ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة ، فكأنه قال : لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل .  
قال إمام الحرمين : " وهذا في غاية الحسن ، ولولا سبق   الشافعي  إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة  مالك  في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية . وهذا قد يكون من   الشافعي  أجراه مجرى التأويل " . ومن قال بمراعاة اللفظ دون سببه لا يمنع من التأويل .  
وقد جاءت  آيات في مواضع اتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها ;   كنزول آية الظهار في  سلمة بن صخر  وآية اللعان في شأن  هلال بن أمية ،     . . . . . . . . ونزول حد      [ ص: 119 ] القذف في رماة  عائشة     - رضي الله عنها - ثم تعدى إلى غيرهم ، وإن كان قد قال سبحانه : (  والذين يرمون المحصنات      ) ( النور : 4 ) ، فجمعها مع غيرها ، إما تعظيما لها إذ أنها أم المؤمنين - ومن رمى أم قوم فقد رماهم - وإما للإشارة إلى التعميم ، ولكن الرماة لها كانوا معلومين ، فتعدى الحكم إلى من سواهم ، فمن يقول بمراعاة حكم اللفظ كان الاتفاق هاهنا هو مقتضى الأصل ، ومن قال بالقصر على الأصل خرج عن الأصل في هذه الآية بدليل . ونظير هذا تخصيص الاستعاذة بالإناث في قوله تعالى : (  ومن شر النفاثات في العقد      ) ( الفلق : 4 ) لخروجه على السبب ; وهو أن بنات  لبيد  سحرن رسول الله صلى الله عليه وسلم .  
كذا قال  أبو عبيد     : وفيه نظر ، فإن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو  لبيد بن الأعصم  كما جاء في الصحيح .  
وقد  تنزل الآيات على الأسباب خاصة ، وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الآي   رعاية لنظم القرآن وحسن السياق ، فذلك الذي وضعت معه الآية نازلة على سبب خاص للمناسبة ; إذ كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام ، أو كان من جملة      [ ص: 120 ] الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام ، فدلالة اللفظ عليه : هل هي كالسبب ، فلا يخرج ويكون مرادا من الآيات قطعا ؟ أو لا ينتهي في القراءة إلى ذلك ; لأنه قد يراد غيره ، وتكون المناسبة مشبهة به ؟ فيه احتمال .  
واختار بعضهم أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق العام المجرد ، ومثاله قوله تعالى : (  إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها      ) ( النساء : 58 ) فإن مناسبتها للآية التي قبلها ، وهي قوله تعالى : (  ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا      ) ( النساء : 51 ) أن ذلك إشارة إلى  كعب بن الأشرف ،  كان قدم إلى  مكة   وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه من أهدى سبيلا ؟ النبي صلى الله عليه وسلم أو هم ؟ فقال : أنتم - كذبا منه وضلالة - لعنه الله ! فتلك الآية في حقه وحق من شاركه في تلك المقالة ، وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ، وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا ذلك وأن ينصروه ، وكان ذلك أمانة لازمة لهم ، فلم يؤدوها ، وخانوا فيها ، وذلك مناسب لقوله : (  إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها      ) ( النساء : 58 ) قال  ابن العربي  في " تفسيره " : " وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة  محمد   صلى الله عليه وسلم ، وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا ، فكان ذلك خيانة منهم ، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات " انتهى .  
ولا يرد على هذا أن  قصة كعب بن الأشرف  كانت عقب بدر ، ونزول (  إن الله يأمركم      ) ( النساء : 58 ) في الفتح أو قريبا منها وبينهما ست سنين ; لأن  الزمان إنما يشترط      [ ص: 121 ] في سبب النزول ولا يشترط في المناسبة   لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها ، والآيات كانت تنزل على أسبابها ، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله تعالى أنها مواضعها .  
ومن فوائد هذا العلم إزالة الإشكال ، ففي " الصحيح " عن   مروان بن الحكم :     " أنه بعث إلى   ابن عباس  يسأله : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن أجمعون ، فقال   ابن عباس     : هذه الآية نزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا : (  وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه      ) ( آل عمران : 187 ) إلى قوله : (  لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا      ) ( آل عمران : 188 ) .  
قال   ابن عباس     : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه " . انتهى .  
قال بعضهم : وما أجاب به   ابن عباس  عن سؤال  مروان  لا يكفي ; لأن اللفظ أعم من السبب ، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم :  المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور  وإنما الجواب أن الوعيد مرتب على أثر الأمرين المذكورين ، وهما الفرح وحب الحمد ، لا عليهما أنفسهما ; إذ هما من الأمور الطبيعية التي لا يتعلق بها التكليف أمرا ولا نهيا .  
قلت : لا يخفى عن   ابن عباس     - رضي الله عنه - أن اللفظ أعم من السبب ; لكنه      [ ص: 122 ] بين أن المراد باللفظ خاص ونظيره تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك فيما سبق .  
ومن ذلك قوله تعالى : (  ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا      ) ( المائدة : 93 ) الآية ، فـ " حكي عن   عثمان بن مظعون  وعمرو بن معد يكرب  أنهما كانا يقولان : الخمر مباحة ، ويحتجان بهذه الآية ، وخفي عليها سبب نزولها ; فإنه يمنع من ذلك ، وهو ما قاله  الحسن  وغيره : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم . وقد أخبر الله أنها رجس ، فأنزل الله تعالى : (  ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح      ) ( المائدة : 93 ) .  
ومن ذلك قوله تعالى : (  واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم      ) ( الطلاق : 4 ) الآية ، قد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة ، وقد بينه سبب النزول ، روي " أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لم يحضن من الصغار والكبار ؟ فنزلت ، فهذا يبين معنى : (  إن ارتبتم      ) ( الطلاق : 4 ) أي إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن " .  
 [ ص: 123 ] ومن ذلك قوله تعالى : (  ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله      ) ( البقرة : 115 ) فإنا لو تركنا مدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الإجماع ، فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها ، وذلك " أنها نزلت لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وهو مستقبل من  مكة   إلى  المدينة   حيث توجهت به " فعلم أن هذا هو المراد .  
ومن ذلك قوله تعالى : (  إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم      ) ( التغابن : 14 ) فإن سبب نزولها : " أن قوما أرادوا الخروج للجهاد ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم أنزل في بقيتها ما يدل على الرحمة وترك المؤاخذة ، فقال : (  وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم      ) ( التغابن : 14 ) " .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					