ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم  وذكر الإجماع على ذلك [ إثم القول على الله بغير علم ] 
قد تقدم قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون    } وأن ذلك يتناول القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه . وتقدم حديث  أبي هريرة  المرفوع : { من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه   } . 
وروى الزهري  عن  عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده قال : { سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتمارون في القرآن فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، ولا يكذب بعضه بعضا ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه   } فأمر من جهل شيئا من كتاب الله أن يكله إلى عالمه ، ولا يتكلف القول بما لا يعلمه . وروى  مالك بن مغول  عن أبي حصين  عن  مجاهد  عن  عائشة  أنه لما نزل عذرها قبل  أبو بكر  رأسها ، قالت : فقلت : ألا عذرتني عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم ، ؟ 
وروى أيوب  عن  ابن أبي مليكه  قال : سئل  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه عن آية ، فقال : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني ؟ وأين أذهب ؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها ؟  [ ص: 127 ] وذكر  البيهقي  من حديث مسلم البطين  عن عزة التميمي  قال : قال  علي بن أبي طالب  كرم الله وجهه في الجنة : وأبردها على كبدي ، ثلاث مرات ، قالوا : يا أمير المؤمنين ، وما ذاك ؟ قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول : الله أعلم . [ على من لا يعلم أن يقول : لا أدري ] 
وذكر أيضا عن  علي  رضي الله عنه قال : خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن  كن فيه عوضا من سفره : لا يخشى عبد إلا ربه ، ولا يخاف إلا ذنبه ، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم ، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم ، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد . 
وقال الزهري  عن خالد بن أسلم  وهو أخو  زيد بن أسلم    : خرجنا مع ابن عمر  نمشي ، فلحقنا أعرابي فقال : أنت عبد الله بن عمر  ؟ قال : نعم ، قال : سألت عنك فدللت عليك ، فأخبرني أترث العمة ؟ قال : لا أدري ، قال : أنت لا تدري ؟ قال : نعم ; اذهب إلى العلماء بالمدينة  فاسألهم ; فلما أدبر قبل يديه قال : نعما قال أبو عبد الرحمن    ; سئل عما لا يدري فقال : لا أدري . 
وقال  ابن مسعود    : من كان عنده علم فليقل به ; ومن لم يكن عنده علم فليقل : " الله أعلم " فإن الله قال لنبيه : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين    } 
وصح عن  ابن مسعود   وابن عباس    : من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون . 
وقال ابن شبرمة    : سمعت الشعبي  إذا سئل عن مسألة شديدة قال : رب ذات وبر لا تنقاد ولا تنساق ; ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم . 
وقال  أبو حصين الأسدي    : إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على  عمر  لجمع لها أهل بدر . 
وقال  ابن سيرين    : لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم . 
وقال القاسم    : من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه ، وقال : يا أهل العراق  والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه ، ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم . 
 [ ص: 128 ] وقال  مالك    : من فقه العالم أن يقول : " لا أعلم " فإنه عسى أن يتهيأ له الخير . وقال : سمعت ابن هرمز  يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده " لا أدري " ، حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه . 
وقال الشعبي    : " لا أدري " نصف العلم . 
وقال  ابن جبير    : ويل لمن يقول لما لا يعلم : إني أعلم . 
وقال  الشافعي    : سمعت  مالكا  يقول : سمعت  ابن عجلان  يقول : إذا أغفل العالم " لا أدري " أصيبت مقاتله ، وذكر ابن عجلان  عن  ابن عباس    . 
[ طريقة السلف الصالح ] 
وقال  عبد الرحمن بن مهدي    : جاء رجل إلى  مالك  ، فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه ، فقال : يا  أبا عبد الله  إني أريد الخروج ، فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال : ما شاء الله ، يا هذا إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ، ولست أحسن مسألتك هذه . 
وقال  ابن وهب    : سمعت  مالكا  يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق ، قال : وكان يقال : التأني من الله والعجلة من الشيطان . وهذا الكلام قد رواه  الليث بن سعد  عن  يزيد بن أبي حبيب  عن سعد بن سنان  عن  أنس  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { التأني من الله والعجلة من الشيطان   } ، وإسناده جيد . 
وقال  ابن المنكدر    : العالم بين الله وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم . 
وقال  ابن وهب    : قال لي  مالك  وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل : يا عبد الله  ما علمت فقل ، وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء . 
وقال  مالك    : حدثني ربيعة  قال : قال لي أبو خلدة  وكان نعم القاضي : يا ربيعة  ، أراك تفتي الناس ، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه . 
وكان  ابن المسيب  لا يكاد يفتي إلا قال : اللهم سلمني وسلم مني . 
وقال  مالك    : ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني : هل تراني موضعا لذلك ؟ سألت  ربيعة  ، وسألت  يحيى بن سعيد  ، فأمراني بذلك ، فقيل له : يا  أبا عبد الله  فلو نهوك ؟ قال : كنت أنتهي . 
وقال  ابن عباس  لمولاه عكرمة    : اذهب فأفت الناس وأنا لك عون ، فمن سألك عما يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته ، فإنك تطرح عن نفسك ثلث مؤنة الناس .  [ ص: 129 ] فوائد تكرير السؤال    ] 
وكان  أيوب  إذا سأله السائل قال له : أعد ، فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولا أجابه ، وإلا لم يجبه ، وهذا من فهمه وفطنته رحمه الله ، وفي ذلك فوائد عديدة : منها أن المسألة تزداد وضوحا وبيانا بتفهم السؤال ، ومنها أن السائل لعله أهمل فيها أمرا يتغير به الحكم فإذا أعادها ربما بينه له ، ومنها أن المسئول قد يكون ذاهلا عن السؤال أولا ، ثم يحضر ذهنه بعد ذلك ، ومنها أنه ربما بان له تعنت السائل وأنه وضع المسألة ; فإذا غير السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها ، وأنها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجب الجواب عنها ; فإن الجواب بالظن إنما يجوز عند الضرورة ، فإذا وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب ، والله أعلم . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					