[ ص: 511 ] كتاب  العطايا والصدقات والحبس وما دخل في ذلك من كتاب السائبة   
مسألة : قال  الشافعي   رحمه الله تعالى : " يجمع ما يعطي الناس من أموالهم ثلاثة وجوه ، ثم يتشعب كل وجه منها ، ففي الحياة منها وجهان وبعد الممات منها وجه ، فمما في الحياة : الصدقات ، واحتج فيها بأن  عمر بن الخطاب      - رضي الله عنه - ملك مائة سهم من  خيبر   ، فقال : يا رسول الله ، لم أصب مالا مثله قط ، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  حبس الأصل وسبل الثمرة  قال  الشافعي      - رحمه الله تعالى - : فلما أجاز - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس أصل المال وتسبل الثمرة دل ذلك على إخراجه الأصل من ملكه إلى أن يكون محبوسا لا يملك من سبل عليه ثمره بيع أصله ، فصار هذا المال مباينا لما سواه ومجامعا لأن يخرج العبد من ملكه بالعتق لله عز وجل إلى غير مالك ، فملكه بذلك منفعة نفسه لا رقبته كما يملك المحبس عليه منفعة المال لا رقبته ، ومحرم على المحبس أن يملك المال كما محرم على المعتق أن يملك العبد ويتم الحبس وإن لم يقبض : لأن عمر - رضي الله عنه - هو المصدق بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله ، ولم يزل  علي      - رضي الله عنه - يلي صدقته حتى لقي الله تعالى ، ولم تزل  فاطمة     - رضي الله عنها - تلي صدقتها حتى لقيت الله ، وروى  الشافعي      - رحمه الله - حديثا ذكر فيه  أن  فاطمة  بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدقت بمالها على  بني هاشم   وبني المطلب   وأن  عليا   كرم الله وجهه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم "     .  
فأما الذي يكون بعد الوفاة فهو الوصية ولها كتاب مفرد نذكرها فيه إن شاء الله ، وأما اللذان في حال الحياة فهما الهبة ، والوقف ، فأما الهبة فلها باب يجيء فيما بعد ، وأما الوقف فهذا موضعه فالوقف يحبس الأصل ويسبل المنفعة ، وجمعه : وقوف وأوقاف ،  فإذا وقف شيئا زال ملكه عنه   بنفس الوقف ولزم الوقف ، فلا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك ، ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة ، ولا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه ، وليس من شرطه لزوم القبض ، ولا حكم الحاكم وهو قول الفقهاء أجمع ، وهو قول  أبي سفيان   ومحمد   غير أن  محمدا   يقول : من شرط لزومه القبض ، وروى  عيسى بن أبان   أن  أبا يوسف   لما قدم  بغداد   كان على قول  أبي حنيفة   في بيع الأوقاف حتى حدثه  إسماعيل بن علية   بحديث  عمر      - رضي الله عنه - فقال : هذا لا يسع أحدا خلافه .  
 [ ص: 512 ] وقال  أبو حنيفة      : إن حكم الحاكم بالوقف لزم ، وإن لم يحكم به لم يلزم ، وكان الواقف بالخيار إن شاء باعه أو وهبه ، وإن مات ورثه ورثته ، وإن أوصى بالوقف يلزم في الثلث . قال القاضي : قد ناقض  أبو حنيفة   في هذا : لأنه جعل الوقف لازما في ثلثه في حال مرضه المخوف إذا أنجزه ولم يؤخره . ولا لازما في جميع ماله في حال صحته : لأن كل ما لزم في الثلث بوصية لزم فيه في مرضه إذا أنجزه وفي جميع ماله في حال صحته مثل العتق فإنه إذا أوصى به لزم في ثلثه ، وإذا أنجزه في مرضه لزم في ثلثه ، وإذا أنجزه في حال صحته لزم في جميع ماله واحتج بأشياء :  
أحدها : ما روي عن  ابن عباس   قال :  لما نزلت سورة النساء وفرض فيها الفرائض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حبس بعد سورة النساء   .  
وروي أن  عبد الله بن زيد   صاحب الأذان جعل حائطا له صدقة ، وجعله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فأتى أبواه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله ، لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ماتا فورثهما  فدل هذا على أن وقفه إياه لم يخرجه من ملكه ، ولو كان قد أخرجه عن ملكه لم يصح الرد على أبويه ، وروي  عن  شريح   قال : جاء  محمد      - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس     .  
وروي عن  سلمان بن زيد   ، عن أبيه  أن رجلا وقف وقفا فأبطله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فلو كان قد لزم لم يصح إبطاله ، ومن القياس أنه قصد إخراج ماله عن ملكه على وجه الصدقة فوجب أن لا يلزم لمجدد القول .  
أصله : صدقة التمليك ، ولأنه عقد على منفعة فوجب أن لا يزول به الملك عن الرقبة قياسا على الإجارة ، ولأنه لو قال : هذه الأرض محرمة لا تورث ولا تباع ولا توهب لم يصر وقفا ، ولم يزل ملكه عنها ، وقد أتى بصريح معنى الوقف ، فإذا قال : وقفتها أو حبستها ، أولى أن لا يزول ملكه عنها .  
ودليلنا : ما روى  ابن عمر   أن  عمر      - رضي الله عنه - ملك مائة سهم من  خيبر   اشتراها ، فلما استجمعها ، قال : يا رسول الله ، إني أصبت مالا لم أصب مالا قط مثله ، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : حبس الأصل وسبل الثمرة وفي حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن شئت تصدقت بها وحبست أصلها فجعلها  عمر   على الفقراء ، والمساكين ، والغزاة في سبيل الله ، وفي الرقاب ، وابن السبيل ، ولا جناح على من ولاها إن أكل منها بالمعروف ويطعم صديقه غير متمول ، وأوصى بها إلى  حفصة  ، ثم إلى الأكابر من أولاد  عمر   ، والتعلق بهذا الحديث من وجهين :  
 [ ص: 513 ] أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بأن يحبس الأصول ، وعند المخالف لا يقع تحبيس الأصل بحال ، فإن قيل : بل يصح منه : لأنه يقف ويرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يحكم به ، فإذا حكم به لزم قيل : فلا يكون ذلك اللزوم من جهته ، إنما يكون من جهة الحاكم بالحكم ، كما يكون ذلك في جميع مسائل الخلاف ، وعلى أنه لم ينقل أن  عمر   رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكم به ، ولو كان فعل ذلك لنقل : لأنه أولى بالنقل من غيره .  
والتعلق الثاني : بالخبر أن عمر جعلها صدقة ثم ذكر أحكامها فقال : لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث فدل ذلك على أن هذه الأحكام تتعلق بها إذا صارت صدقة وإن لم يحكم بها الحاكم ، ويدل على ذلك إجماع الصحابة : لأن  أبا بكر   ،  وعمر   ،  وعثمان   ،  وعليا   ،  وطلحة   ،  والزبير   ،  وأنسا   ،  وأبا الدرداء   ،  وعبد الرحمن بن عوف   ،  وفاطمة  وغيرهم وقفوا دورا وبساتين ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه رجع في وقفه فباع منه شيئا ، ولا عن أحد من ورثتهم مع اختلاف همهم ، فلو كان ذلك جائزا لنقل عن أحد منهم الرجوع .  
ومن القياس : أنه تصرف يلزم بالوصية ، فجاز أن يلزم في حال الحياة من غير حكم الحاكم .  
أصله : إذا بنى مسجدا ، فإنه يلزم من غير حكم الحاكم ، وقد قال  أبو حنيفة      : إذا أذن لقوم فصلوا فيه صار محبسا وثبت وقفه ، وكذلك إذا عمل مقبرة وأراد أن يقفها فأذن لقوم فدفنوا فيها ثبت الوقف ، ولأنه إزالة ملك يلزم بحكم الحاكم فجاز أن يلزم بغير حكمه . أصله : سائر أنواع التصرف التي تزيل الملك .  
فأما الجواب عن حديث  ابن عباس   فمن وجهين :  
أحدهما : أنه أراد حبس الزانية ، وذلك - قوله تعالى - :  فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا      [ النساء : 15 ] ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - السبيل فقال : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم .  
والثاني : أنه أراد به ما ينبه في آخر وهو قوله :  إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث  كأنه قال : لا يحبس عن وارث شيء جعله الله له .  
وأما الجواب عن حديث  عبد الله بن زيد      : فهو أن ذلك الحائط ما كان له إنما كان لأبويه بدليل أنه روي عن الخبر ماتا فورثهما .  
وأما الجواب عن حديث  شريح   فهو أن نقول : هذا مرسل : لأن  شريحا   تابعي ، ولا      [ ص: 514 ] نقول بالمراسيل ، أو نقول : أراد بذلك الأحباس التي كانت تفعلها الجاهلية ، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز فقال :  ما جعل الله من بحيرة      [ المائدة : 103 ] .  
وأما الجواب عن الخبر فهو أنه لا حجة فيه : لأنه يجوز أن يكون ذلك الوقف ما صح لمعنى عرض فيه فرده لذلك المعنى ، وذلك الرد لا يدل على بطلان الحبس ، كما لو روي أن رجلا باع بيعا فرده رسول - صلى الله عليه وسلم - لم يدل ذلك على أن حبس البيع باطل .  
وأما قياسهم على صدقة التمليك فإنا نقلبه ، فنقول : فوجب أن يكون وجود حكم الحاكم وعدمه سواء .  
أصله : ما ذكروه ثم لا يمتنع أن لا يلزم بمجرد القول إذا أخرجه بلفظ الصدقة ، وإذا أخرجه بلفظ الوقف لزم ، ألا ترى أن هبة العبد لا تلزم بمجرد القول ، وعتقه يلزم بمجرد القول ، وأما قياسهم على عقد الإجارة فهو أنا لا نسلم أنه عقد على منفعة ، وإنما هو عقد على الرقبة : لأن الوقف مزيل الملك عن الرقبة فهو كالعتق ، وأما استدلالهم الأخير فهو أنه لا يمتنع أن لا يلزم إذا أتى بصريح المعنى ، ويلزم إذا أتي بلفظة كما إذا قال عن عقد النكاح : أحللت لك هذه المرأة وأبحتها لك ، لم يصح النكاح ، وقد صرح بمعناه ، ولو قال : زوجتك ، أو أنكحتك جاز ذلك ، والله أعلم .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					