التنبيه الرابع :  باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام      :  
ولهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءة في " لمستم " و  لامستم      [ النساء : 43 ] .  
وجواز وطء الحائض عند الانقطاع قبل الغسل وعدمه ، على الاختلاف في  يطهرن      [ البقرة : 222 ] وقد حكوا خلافا غريبا في الآية ، إذا قرئت بقرائتين ، فحكى   أبو الليث السمرقندي  في كتاب [ البستان ] قولين :  
أحدهما : أن الله قال بهما جميعا .  
والثاني : أن الله قال بقراءة واحدة ، إلا أنه أذن أن نقرأ بقراءتين . ثم اختار توسطا ، وهو أنه إن كان لكل قراءة تفسير يغاير الآخر فقد قال بهما جميعا ، وتصير القراءتان بمنزلة آيتين ، مثل  حتى يطهرن   وإن كان تفسيرهما واحدا ك و  البيوت   و  البيوت      [ البقرة : 189 ] فإنما قال بأحدهما ، وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعود لسانهم .  
قال : فإن قيل : إذا قلتم إنه قال بإحداهما فأي القراءتين هي ؟ .  
قلنا : التي بلغة  قريش      . انتهى .  
وقال بعض المتأخرين :  لاختلاف القراءات وتنوعها فوائد      :  
منها التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة .  
 [ ص: 275 ] ومنها إظهار فضلها وشرفها على سائر الأمم ، إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلا على وجه واحد .  
ومنها : إعظام أجرها ، من حيث إنهم يفرغون جهدهم في تحقيق ذلك وضبطه لفظة لفظة ، حتى مقادير المدات وتفاوت الإمالات ، ثم في تتبع معاني ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ ، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح .  
ومنها : إظهار سر الله في كتابه ، وصيانته له عن التبديل والاختلاف ، مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة . 
ومنها : المبالغة في إعجازه بإيجازه ، إذ تنوع القراءات بمنزلة الآيات ، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدة لم يخف ما كان فيه من التطويل ، ولهذا كان قوله :  وأرجلكم      [ المائدة : 6 ] منزلا لغسل الرجل ، والمسح على الخف واللفظ واحد ، لكن باختلاف إعرابه .  
ومنها : أن بعض القراءات يبين ما لعله مجمل في القراءات الأخرى فقراءة يطهرن بالتشديد مبينة لمعنى قراءة التخفيف وقراءة ( فامضوا إلى ذكر الله ) تبين أن المراد بقراءة  فاسعوا      [ الجمعة : 9 ] الذهاب لا المشي السريع .  
وقال  أبو عبيد  في " فضائل القرآن " :  المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها   ، كقراءة  عائشة   وحفصة     : ( والوسطى صلاة العصر     ) .  
وقراءة   ابن مسعود     : ( فاقطعوا أيمانهما ) .  
وقراءة  جابر     : ( فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ) .  
قال : فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن ، وقد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير ، فيستحسن فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ، ثم صار في نفس القراءة ! فهو أكثر من التفسير وأقوى ، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل . انتهى .  
وقد اعتنيت في كتابي " أسرار التنزيل " ببيان كل قراءة أفادت معنى زائدا على القراءة المشهورة .  


						
						
