[ ص: 257 ] النوع الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والعشرون .  
معرفة المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ والموضوع والمدرج .  
اعلم  أن  القاضي جلال الدين البلقيني  قال : القراءة تنقسم إلى متواتر وآحاد وشاذ .  
فالمتواتر : القراءات السبعة المشهورة      .  
والآحاد : قراءات الثلاثة التي هي تمام العشر ، ويلحق بها قراءة الصحابة .  
والشاذ : قراءات التابعين   كالأعمش  ،   ويحيى بن وثاب  ،   وابن جبير   ، ونحوهم .  
وهذا الكلام فيه نظر يعرف مما سنذكره .  
وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه ، شيخ شيوخنا  أبو الخير بن الجزري  ، قال في أول كتابه " النشر " : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا ، وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها ، سواء كانت ، عن الأئمة السبعة ، أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة ، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم .  
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف ، صرح بذلك  الداني  ومكي  والمهدوي  ،  وأبو شامة  ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف ، عن أحد منهم خلافه .  
قال  أبو شامة  في " المرشد الوجيز " : لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة ، وأنها أنزلت هكذا ، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط . وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء ، فذلك لا يخرجها عن الصحة ، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف ، لا على      [ ص: 258 ] من تنسب إليه ; فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم ، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم     .  
ثم  قال  ابن الجزري     : فقولنا في الضابط : ( ولو بوجه ) نريد به وجها من وجوه النحو ، سواء كان أفصح أم فصيحا ، مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله ، إذا كانت القراءات مما شاع وذاع ، وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح ، إذ هو الأصل الأعظم ، والركن الأقوم .  
وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ; ولم يعتبر إنكارهم كإسكان  بارئكم      [ البقرة : 54 ] و  يأمركم      [ البقرة : 67 ] وخفض  والأرحام      [ النساء : 1 ] ونصب  ليجزي قوما      [ الجاثية : 14 ] والفصل بين المضافين في  قتل أولادهم شركاؤهم      [ الأنعام : 137 ] وغير ذلك     .  
قال  الداني     : وأئمة القراء : لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر ، والأصح في النقل ، وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة; لأن القراءة سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها     .  
قلت :  أخرج   سعيد بن منصور  في سننه ، عن   زيد بن ثابت  قال : القراءة سنة متبعة     .  
قال  البيهقي     : أراد أن اتباع من قبلنا في الحروف سنة متبعة لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام ، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة ، وإن كان غير ذلك سائغا في اللغة أو أظهر منها     .  
ثم قال  ابن الجزري     : ونعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتا في بعضها دون بعض كقراءة  ابن عامر     :  وقالوا اتخذ الله      [ البقرة : 116 ] في البقرة بغير واو ،  وبالزبر وبالكتاب      [ فاطر : 25 ] بإثبات الباء فيهما ، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي .  
 [ ص: 259 ] وكقراءة  ابن كثير     : تجري من تحتها الأنهار [ 100 ] في آخر براءة بزيادة ( من ) فإنه ثابت في المصحف المكي ، ونحو ذلك ، فإن لم تكن في شيء من المصاحف العثمانية فشاذ ، لمخالفتها الرسم المجمع عليه .  
وقولنا : ( ولو احتمالا ) نعني به : ما وافقه ولو تقديرا ك ( ملك يوم الدين ) ، فإنه كتب في الجميع بلا ألف ، فقراءة الحذف توافقه تحقيقا ، وقراءة الألف توافقه تقديرا ، لحذفها في الخط اختصارا كما كتب : ملك الملك [ آل عمران : 26 ] .  
وقد يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقا نحو : ( تعلمون ) بالتاء والياء ( ويغفر لكم ) بالياء والنون ، ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل في حذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة - رضي الله عنهم - في علم الهجاء خاصة ، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم .  
وانظر كيف كتبوا (  الصراط      ) بالصاد المبدلة من السين ، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين - وإن خالفت الرسم من وجه - قد أتت على الأصل ، فيعتدلان ، وتكون قراءة الإشمام محتملة ، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك . وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل ; ولذلك اختلف في "  بصطة      " [ الأعراف : 69 ] دون  بسطة      " [ البقرة : 247 ] البقرة لكون حرف البقرة كتب بالسين والأعراف بالصاد ، على أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ، ووردت مشهورة مستفاضة ، ولذا لم يعدوا إثبات ياء الزوائد ، وحذف ياء  فلا تسألني   في الكهف [ 70 ] وواو  وأكن من الصالحين      [ المنافقون : 10 ] والظاء من  بضنين      [ التكوير : 24 ] ونحوه من مخالفة الرسم المردودة ، فإن الخلاف في ذلك مغتفر إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد ، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول ، بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها ، حتى ولو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني ، فإن حكمه في حكم الكلمة ، لا يسوغ مخالفة الرسم فيه وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته .  
قال : وقولنا : ( وصح سندها ) نعني به : أن يروي تلك القراءة العدل الضابط ، عن مثله ، وهكذا حتى ينتهي ، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن ، غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم .  
قال : وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ، ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن .  
 [ ص: 260 ] قال : وهذا مما لا يخفى ما فيه ; فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره ; إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قبوله ، وقطع بكونه قرآنا ، سواء وافق الرسم أم لا . وإذا شرطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن السبعة . وقد  قال  أبو شامة     : شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين : أن السبع كلها متواترة ،  أي : كل فرد فرد فيما روي عنهم .  
قالوا : والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب ، ونحن بهذا نقول ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق ، واتفقت عليه الفرق من غير نكير له ، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها .  
وقال  الجعبري :  الشرط واحد وهو صحة النقل ، ويلزم الآخران ، فمن أحكم معرفة حال النقلة وأمعن في العربية وأتقن الرسم ، انجلت له هذه الشبهة     .  
وقال   مكي     : ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام :  
قسم يقرأ به ويكفر جاحده وهو ما نقله الثقات ، ووافق العربية وخط المصحف      .  
وقسم صح نقله عن الآحاد ، وصح في العربية ، وخالف لفظه الخط فيقبل ، ولا يقرأ به لأمرين : مخالفته لما أجمع عليه ، وأنه لم يؤخذ بإجماع ، بل بخبر الآحاد ولا يثبت به قرآن ، ولا يكفر جاحده ولبئس ما صنع إذ جحده .  
وقسم نقله ثقة ، ولا حجة له في العربية ، أو نقله غير ثقة ، فلا يقبل وإن وافق الخط .  
وقال  ابن الجزري     : مثال الأول كثير ك  مالك   و " ملك " و  يخدعون   و  يخادعون   ومثال الثاني : قراءة   ابن مسعود  وغيره ( والذكر والأنثى ) وقراءة   ابن عباس     ( وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة ) ونحو ذلك .  
قال : واختلف العلماء في القراءة بذلك ، والأكثر على المنع ، لأنها لم تتواتر ، وإن ثبتت بالنقل ; فهي منسوخة بالعرضة الأخيرة ، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني .  
ومثال ما نقله غير ثقة كثير مما في كتب الشواذ ، مما غالب إسناده ضعيف وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام  أبي حنيفة  التي جمعها  أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي  ، ونقلها عنه  أبو القاسم الهذلي  ومنها : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) برفع ( الله ) ونصب ( العلماء ) ،      [ ص: 261 ] وقد كتب   الدارقطني  وجماعة بأن هذا الكتاب موضوع ، لا أصل له .  
ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية قليل لا يكاد يوجد ، وجعل بعضهم منه رواية  خارجة  عن  نافع     ( معائش ) بالهمزة .  
قال : وبقي قسم رابع مردود أيضا ، وهو ما وافق العربية والرسم ، ولم ينقل البتة فهذا رده أحق ، ومنعه أشد ، ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر ، وقد ذكر جواز ذلك عن  أبي بكر بن مقسم  ، وعقد له بسبب ذلك مجلس وأجمعوا على منعه ، ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق الذي لا أصل يرجع إليه ولا ركن يعتمد في الأداء عليه .  
قال : أما ما له أصل كذلك ، فإنه مما يصار إلى قبول القياس عليه كقياس إدغام :  قال رجلان      [ المائدة : 23 ] على :  قال رب      [ الشعراء : 24 - 28 ] ونحوه مما لا يخالف نصا ولا أصلا ولا يرد إجماعا مع أنه قليل جدا .  
قلت : أتقن الإمام  ابن الجزري  هذا الفصل جدا ، وقد تحرر لي منه أن القراءات أنواع :  
الأول :  المتواتر : وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم إلى منتهاه   ، وغالب القراءات كذلك .  
الثاني : المشهور : وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة التواتر ، ووافق العربية والرسم ، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ ويقرأ به ، على ما ذكر  ابن الجزري  ويفهمه كلام  أبي شامة  السابق .  
ومثاله : ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة ، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض ، وأمثلة ذلك كثيرة في فرش الحروف من كتب القراءات كالذي قبله ، ومن أشهر ما صنف في ذلك " التيسير "   للداني  ، وقصيدة  الشاطبي  ، وأوعبه " النشر في القراءات العشر " وتقريب النشر كلاهما  لابن الجزري     .  
 [ ص: 262 ] الثالث : الآحاد : وهو ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية ، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور   ، ولا يقرأ به ، وقد عقد  الترمذي  في جامعه ، والحاكم في مستدركه ، لذلك بابا أخرجا فيه شيئا كثيرا صحيح الإسناد ; ومن ذلك ما أخرجه  الحاكم  من طريق  عاصم الجحدري ،  عن  أبي بكرة  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ :    " متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان     " .  
وأخرج من حديث   أبي هريرة  أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ :    " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرات أعين     " .  
وأخرج عن   ابن عباس  أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ : "  لقد جاءكم رسول من أنفسكم " . بفتح الفاء     .  
وأخرج عن  عائشة  أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ :    " " فروح وريحان " : يعني بضم الراء     .  
الرابع :  الشاذ وهو ما لم يصح سنده   ، وفيه كتب مؤلفة ، من ذلك قراءة ( ملك يوم الدين ) بصيغة الماضي ونصب ( يوم ) ، و : ( إياك يعبد ) ببنائه للمفعول .  
الخامس : الموضوع : كقراءات  الخزاعي     .  
وظهر لي سادس يشبهه من أنواع الحديث المدرج : وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير ، كقراءة   سعد بن أبي وقاص     : ( وله أخ أو أخت من أم ) أخرجها   سعيد بن منصور     .  
وقراءة   ابن عباس     : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ) أخرجها   البخاري     .  
 [ ص: 263 ] وقراءة  ابن الزبير     : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم ) . قال  عمرو     : فما أدري : أكانت قراءته أم فسر ؟ أخرجه   سعيد بن منصور ،  وأخرجه   ابن الأنباري  وجزم بأنه تفسير .  
وأخرج عن  الحسن  أنه كان يقرأ : (  وإن منكم إلا واردها   الورود : الدخول ) .  
قال   ابن الأنباري     : قوله : ( الورود : الدخول ) تفسير من  الحسن  لمعنى الورود . وغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن .  
قال :  ابن الجزري  في آخر كلامه : وربما كانوا يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا ; لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا ، فهم آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه     .  
وأما من يقول : إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى ، فقد كذب . انتهى .  
وسأفرد في هذا النوع - أعني المدرج - تأليفا مستقلا .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					