[ ص: 33 ] بسم الله الرحمن الرحيم 
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد  النبي المصطفى الكريم 
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه  أحمد بن إدريس المالكي     : 
الحمد لله الذي تجلى لخلقه في عجائب مبتدعات صنعته ، واحتجب عنهم بسرادقات كمالات هويته ، وتفرد بوجوب الوجود ، فهو الأبدي في قيوميته ، وتوحد بالإيجاد ، فكل الأكوان خاضعة لجلال هيبته ، وتنزه عن الشبيه ، والشريك ، فهو الواحد الأحد في إلهيته ، استخلص العلماء بمواهب عنايته ، فأطلع شموس العلوم في آفاق سرائرهم ، فأشرقت عرصات الأرواح بآثار رحمته ، وأينعت رياض الأشباح بثمرات المعارف ، فأضحت حالية بجميل طاعته ، فهم السامعون لتفاصيل مناجاته ، والحاملون لأعباء رسالاته ، والعاملون بمحاسن مشروعاته ، فأولئك مشكاة أنواره ، ومعدن أسراره ، والهائمون بجمال صفاته ، والهانئون بجلال عظمة ذاته ، والفانون عن الأكوان بملاحظات بهاء وارداته ، فهم خير بريته من سائر مخلوقاته ، ونحن الضارعون بضعفنا لجلاله ، والمبتهلون بنقصنا لكماله أن يفيض علينا كما أفاض عليهم من نعمته . 
وأفضل الصلوات والتسليمات على أفضل الصادرين عن قدرته : محمد  المبعوث بأفضل الرسائل ، وأقرب الوسائل إلى دار كرامته ، الجامع بين ذروة مكارم الأخلاق ، وخلاصة شرف الأعراق في حوزته ، المخصوص بسيادة الدنيا   [ ص: 34 ] لعموم رسالته ، واستيلاء ملك .... ثناء .... وإنفاد .... وارتفاع علو منزلته ، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه ، وعترته أساة المضايق ، وهداة الخلائق إلى أفضل الطرائق من سيرته . 
أما بعد : فإن الفقه عماد الحق ، ونظام الخلق ، ووسيلة السعادة الأبدية ، ولباب الرسالة المحمدية ، من تحلى بلباسه فقد ساد ، ومن بالغ في ضبط معالمه فقد شاد ، ومن أجله تحقيقا ، وأقربه إلى الحق طريقا : مذهب إمام دار الهجرة النبوية ، واختيارات آرائه المرضية لأمور : 
منها : ورود الحديث النبوي فيه ، وتظاهر الآثار بشرف معاليه ، واختصاصه بمهبط الرسالة ، وامتيازه بضبط أقضية الصحابة حتى يقول إمام الحرمين - رحمه الله - : وأما  مالك     - رحمه الله - في أقضية الصحابة رضي الله عنهم ، فلا يشق غباره ، ويقول   الشافعي     - رحمه الله - : إذا ذكر الحديث ، فمالك النجم ، ويقول أيضا  لأبي يوسف     : أنشدك الله أصاحبنا - يعني  مالكا     - أعلم بكتاب الله أم صاحبكم يعني   أبا حنيفة  ، فقال صاحبكم ، فقال أصاحبنا أعلم بسنة رسول الله أم صاحبكم ، فقال صاحبكم ، فقال أصاحبنا أعلم بأقضية الصحابة رضوان الله عليهم أم صاحبكم ، فقال صاحبكم ، فقال : فإذن لم يبق لصاحبكم إلا القياس ، وهو فرع النصوص ، ومن كان أعلم بالأصل كان أعلم بالفرع . 
ومنها : طول عمره في الإقراء والإفتاء سنين ، ومعلوم أنهما ينبوع الاطلاع . 
ومنها : أنه أملى في مذهبه نحوا من مائة وخمسين مجلدا في الأحكام الشرعية ، فلا يكاد يقع فرع إلا ويوجد له فيه فتيا بخلاف غيره ممن لا يكاد يجد له   [ ص: 35 ] أصحابه إلا القليل من المجلدات : كالأم   للشافعي  ، وفتاوى مفرقة في مذهب  أحمد  ،  وأبي حنيفة  في كتب أصحابهم ، ثم خرج أصحابهم بقية مذاهبهم على مناسبات أقوال أئمتهم ، ومعلوم أن التخريج قد يوافق إرادة صاحب الأصل ، وقد يخالفها حتى لو عرض عليه المخرج على أصله لأنكره ، وهذا معلوم بالضرورة ، ولا خفاء أن من قلد مذهبا فقد جعل إمامه واسطة بينه وبين الله تعالى ، وسكون النفوس إلى قول الإمام القدوة أكثر من سكونها إلى أتباعه بالضرورة . 
ومنها : أن الله تعالى أسعده ، وسدده لعمل أهل المدينة  الذين ينقل أبناؤهم عن آبائهم ، وأخلافهم عن أسلافهم الأحكام ، والسنن النقل المتواتر بسبب جمع الدار لهم ، ولأسلافهم ، فيخرج المسند عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم واليقين ، وغيره لم يظفر بذلك ، ولذلك لما شاهد  أبو يوسف  مستند  مالك  في الصاع والأذان والأوقات وكثير من الأحكام الشرعيات - رجع عن مذهب صاحبه إلى مذهب مالك رحمة الله عليهم أجمعين . 
ومنها : ما ظهر من مذهبه في أهل المغرب  ، واختصاصهم به ، وتصميمهم عليه مع شهادته عليه السلام لهم بأن الحق يكون فيهم ، ولا يضرهم من خذلهم إلى أن تقوم الساعة ، فتكون هذه الشهادة لهم شهادة له بأن مذهبه حق لأنه شعارهم ، ودثارهم ، ولا طريق لهم سواه ، وغيره لم تحصل له هذه الشهادة . 
ولما وهبني الله من فضله أن جعلني من جملة طلبته الكاتبين في صحيفته تعين علي القيام بحقه بحسب الإمكان ، واستفراغ الجهد في مكافأة الإحسان ، فوجدت أخيار علمائنا رضي الله عنهم قد أتوا في كتبهم بالحكم الفائقة   [ ص: 36 ] والألفاظ الرائقة ، والمعاني الباهرة ، والحجج القاهرة غير أنهم يتبعون الفتاوى في مواطنها حيث كانت ، ويتكلمون عليها أين وجدت مع قطع النظر عن معاقد الترتيب ، ونظام التهذيب كشراح المدونة ، وغيرها ، ومنهم من سلك الترتيب البديع ، وأجاد فيه الصنيع كالإمام العلامة  كمال الدين  صاحب الجواهر الثمينة - رحمه الله - واقتصر على ذلك مع اليسير من التنبيه على بعض التوجيه . 
وأنت تعلم أن الفقه وإن جل ، إذا كان مفترقا تبددت حكمته ، وقلت طلاوته ، وبعدت عند النفوس طلبته ، وإذا رتبت الأحكام مخرجة على قواعد الشرع مبنية على مآخذها نهضت الهمم حينئذ لاقتباسها ، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها . 
وقد آثرت أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقا وغربا حتى لا يفوت أحدا من الناس مطلب ، ولا يعوزه أرب . 
وهي : المدونة ، والجواهر ، والتلقين ، والجلاب ، والرسالة ، جمعا مرتبا بحيث يستقر كل فرع في مركزه ، ولا يوجد في غير حيزه ، على قانون المناسبة في تأخير ما يتعين تأخيره ، وتقديم ما يتعين تقديمه من الكتب ، والأبواب ، والفصول متميزة الفروع حتى إذا رأى الإنسان الفرع ، فإن كان مقصوده طالعه ، وإلا أعرض عنه ، فلا يضيع الزمان في غير مقصوده . 
وأعزي الفرع إلى المدونة إن كان مشتركا بينها وبين غيرها ، أو خاصا بها . 
 [ ص: 37 ] فإن لم يكن منها عزيته لكتابه ليكون الفقيه على ثقة من نقله لعلمه بالكتاب المنقول منه ، ومتى شاء راجعه . 
ومتى وجدت الفرع أتم في كتابه نقلته منه ، وأعرضت عن غيره ، وإن كان منقولا فيه إلا المدونة ، فإني أدأب في استيعابها غير أول الطهارة ، فإنه مستوعب من غيرها ، فإنه نزر . 
ومتى كانت فروع منقولة عن واحد سميته في الفرع الأول ، وأقتصر بعد ذلك على قولي " قال " ، ولا أسميه طلبا للاختصار . 
وإذا قلت : قال في الكتاب ، فهو المدونة . 
وأقدم المشهور على غيره من الأقوال ليستدل الفقيه بتقديمه على مشهوريته إلا أن يتعذر ذلك لتساوي الأقوال ، أو لوقوع الخلاف بين الأصحاب في المشهور اختلافا على السواء ، وهذا قليل في المذهب يعلم بقرينة البحث فيه . 
واخترت أن أقول : قال صاحب البيان ، أو قال صاحب المقدمات ، أو صاحب النكت لأجمع بين القائل والكتاب المقول فيه ، فإن صاحب البيان قد ينقل في المقدمات ، وصاحب النكت قد ينقل في تهذيب الطالب . 
ومتى قلت قال  المازري  ، فهو في شرح التلقين تركته لطول الاسم . 
وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة رحمهم الله ، ومآخذهم في كثير من المسائل تكميلا للفائدة ، ومزيدا في الاطلاع ، فإن الحق   [ ص: 38 ] ليس محصورا في جهة ، فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى ، وأعلق بالسبب الأقوى . 
وقد جعلت الشين علامة   للشافعي  ، والحاء علامة  لأبي حنيفة  تقليلا للحجم ، والأئمة علامة   للشافعي  ،  وأبي حنيفة  ،   وابن حنبل  ، والصحاح علامة  لمسلم  ،   والبخاري  ، والموطأ . 
وأودعته ما تحتاجه الأبواب من اللغة في الاشتقاق ، وغيره ، وما تحتاجه من النحو . 
وأضيف الأحاديث إلى مصنفيها لتقوية الحجة في المناظرة ، والعلم بقوة السند من ضعفه ، وأتكلم على الأحاديث بما تحتاجه من إشكال ، أو جوابه فيه ، أو إثارة فائدة منه . 
وأضيف الأقوال إلى قائلها إن أمكن ليعلم الإنسان التفاوت بين القولين بسبب التفاوت بين القائلين بخلاف ما يقول كثير من أصحابنا : في المسألة قولان ، من غير تعيين ، فلا يدري الإنسان من يجعله بينه وبين الله تعالى من القائلين ، ولعل قائلهما واحد ، وقد رجع عن أحدهما ، فإهمال ذلك مؤلم في التصانيف . 
وأودعته من أصول الفقه ، وقواعد الشرع ، وأسرار الأحكام ، وضوابط الفروع - ما فتح الله علي به من فضله مضافا لما أجد في كتب الأصحاب بحسب الإمكان ، والتيسير . 
 [ ص: 39 ] وقد جمعت له من تصانيف المذهب نحو أربعين تصنيفا ما بين شرح ، وكتاب مستقل خارجا عن كتب الحديث ، واللغة ، ولا يكاد أحد يجد فيها فرعا إلا نقلته مضافا لما جمعته ، وأطالعها جميعها قبل وضع الباب ، وحينئذ أضعه ، وما كان من الفروع يندرج تحت غيره تركته ، فلا معنى لإعادة اللفظ بغير فائدة . 
وأقصد أن يكون لفظه خاليا عن التطويل الممل ، والاختصار المخل . 
وأقدم بين يديه مقدمتين إحداهما : في بيان فضيلة العلم وآدابه ليكون ذلك معدنا وتقوية لطلابه ، والمقدمة الأخرى في قواعد الفقه ، وأصوله ، وما يحتاج إليه من نفائس العلم مما يكون حلية للفقيه ، وجنة للمناظر ، وعونا على التحصيل . 
وبينت مذهب  مالك     - رحمه الله - في أصول الفقه ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع ، ويطلع الفقيه على موافقة لأصله ، أو مخالفته له لمعارض أرجح منه ، فيطلبه حتى يطلع على مدركه ، ويطلع المخالفين في المناظرات على أصله . 
وأنقح إن شاء كتاب الفرائض ، وأمهد قواعده ، وما عليها من نقوض ، وأقرر ما أجده ، وأودع فيه من الجبر ، والمقابلة ما يحتاج إليه ، فإني لم أره في كتبنا بل في كتب الشافعية ، والحنفية ، وهو من الأسرار العجيبة التي لا يمكن أن يخرج كثير من مسائل الفرائض ، والوصايا ، والنكاح ، والخلع ، والبيع ، والإجارة إلا بها ، وأمهد إن شاء الله كتاب الجامع منه تمهيدا جميلا . 
ولما نظرت إلى هذه المقاصد ، وما اشتملت عليه من الفوائد سميته بالذخيرة   [ ص: 40 ] وهو ذخيرة إن شاء الله للمعاد لقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به ، أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له   . 
وهو ذخيرة لطلبة العلم في تحصيل مطالبهم ، وتقريب مقاصدهم ، فكل من أراد منهم إقراء كتاب من الكتب الخمسة ، أو قراءته وجد فروعه فيه مشروحة ممهدة ، والله تعالى هو المسئول في العون على خلوص النية ، وحصول البغية ، فإن الخير كله بيديه ، ولا ملجأ منه إلا إليه . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					