[ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم  
القسم الثاني من الكتاب  
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف ، وفيه مسائل :  
المسألة الأولى :  
إن  الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات   والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر .  
 [ ص: 8 ] ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة ، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب ، وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام ، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ، ويقصد به شيء آخر فلا يكون      [ ص: 9 ] كذلك ، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم .  
وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية ، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون .  
وقد قال تعالى :  وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين      [ البينة : 5 ] .  
فاعبد الله مخلصا له الدين      [ الزمر : 2 ] .  
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان      [ النحل : 106 ] .  
وقال :  ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون      [ التوبة : 54 ] .  
وقال :  ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا      [ البقرة : 231 ] بعد قوله :  فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف      [ البقرة : 231 ] .  
وقال :  من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار      [ النساء : 12 ] .  
وقال :  لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء   إلى قوله :      [ ص: 10 ] إلا أن تتقوا منهم تقاة      [ آل عمران : 28 ] .  
وفي الحديث :  إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى  إلى آخره .  
وقال :  من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله     .  
وفيه :  أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي     .  
وتصديقه قول الله تعالى :  فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا      [ الكهف : 110 ] .  
وأباح عليه الصلاة والسلام  للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو      [ ص: 11 ]  [ ص: 12 ] يصد له   ، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه .  
لا يقال : إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال ، والدليل على ذلك أشياء ، منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا ، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع ، إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله ، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به ; لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه ، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح ، وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء ، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ، ويتسلسل ، أو يكون الإكراه      [ ص: 13 ] عبثا ، وكلاهما محال ، أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب .  
ومنها أن الأعمال ضربان : عادات ، وعبادات .  
فأما العادات فقد قال الفقهاء :  إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية   ، بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها ، فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات .  
وأما  العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق   أيضا ، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها ، فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط  النية في الوضوء   ، وكذلك      [ ص: 14 ] الصوم والزكاة ، وهي عبادات .  
وألزموا الهازل العتق   والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة .  
وفي الحديث :  ثلاث جدهن وهزلهن جد : النكاح والطلاق  والرجعة      .  
 [ ص: 15 ] وفي حديث آخر :  من  نكح لاعبا   أو  طلق لاعبا   أو أعتق لاعبا فقد جاز     .  
وعن   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق والعتاق والنكاح والنذر     .  
 [ ص: 16 ] ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به ، وفي مذهب  مالك  فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر - أن صومه صحيح ، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم - أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة .
وأصل مسألة الرفض مختلف فيها ، فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة .  
ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا ، وهو النظر      [ ص: 17 ] الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به .  
فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء ، فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية ؟ .  
وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى ، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا; لأنا نجيب عن ذلك بأمرين :  
أحدهما : أن نقول : إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان : ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار ، وهنا يصح أن يقال : إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به امتثال أمر الشارع أو لا ، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية ، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة ، فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا ، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا ، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة ، فليس هذا النمط بمقصود للشارع ، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار ، لا بد فيه من القصد ، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة .  
وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين ، فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل ، أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه .  
وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال ، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف ، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع ، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا ، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا ، وكذلك ما      [ ص: 18 ] في معناه .  
والضرب الثاني : ليس من ضرورة كل فعل ، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات ، فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك ، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه ، وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه ، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة; بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال في صحته; لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل ، فإنه محال ، فصار في عداد ما لا قدرة عليه ، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا .  
والثاني من وجهي الجواب : بالكلام على تفاصيل ما اعترض به .  
فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته ، فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدي الغصاب ، وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزئ فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة ، كالإكراه      [ ص: 19 ] على الصلاة ، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها; لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد ، فلم يطالبوا بالشق عن القلوب .  
وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال وإلا كانت باطلة . وبيان بطلانها في كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية ، فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى ، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى ، فالطهارة والزكاة من ذلك ، وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت ، فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه      [ ص: 20 ] قصد سواه ولهذا نظائر في العاديات كنكاح الشغار ، فإنه عند  أبي حنيفة  منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه .  
 [ ص: 21 ] وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك; لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك .  
وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات ، وإما قاصد أن لا يقع ، وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى .  
وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه ، وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل ، وهو الإباحة أو غيرها ، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن ، فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله ، أو يقال : إنه قاصد بالعقد - الذي هو جد شرعي - اللعب ، فناقض مقصود الشارع ، فبطل حكم الهزل فيه ، فصار إلى الجد .  
ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة ، فالنية الأولى      [ ص: 22 ] مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي ، وهو لم يكن ، فصح الصوم ، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى ، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنفل لغوا لم يصادف محلا ، وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض .  
وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال ، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول ، وبالله التوفيق .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					