فصل : فإذا استقر ثبوت الأحكام الخمسة باللعان ، فنفي النسب مختص بلعان الزوج وحده ، واختلفوا في  الفرقة بماذا تقع ؟   على ثلاثة مذاهب :  
أحدها : وهو مذهب  الشافعي   أنها تقع بلعان الزوج وحده وكذلك الأحكام      [ ص: 52 ] الخمسة ، وإنما يختص لعان الزوجة بإسقاط الحد عنها لا غير ، وأن حكم الحاكم بالفرقة يكون تنفيذا ولا يكون إيقاعا .  
وقال  مالك   ،  وربيعة   ،  والليث بن سعد   ،  وأحمد بن حنبل   ،  وداود      : إن الفرقة تقع بلعان الزوجين ولا تقع بلعان أحدهما ، ويكون حكم الحاكم بالفرقة تنفيذا لا إيقاعا ، فخالفوا  الشافعي   في وقوع الفرقة بلعانهما ووافقوه في أن حكم الحاكم بها تنفيذ وليس بإيقاع .  
وقال  أبو حنيفة      : الفرقة لا تقع إلا بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما ، فيكون حكم الحاكم بها إيقاعا لها لا تنفيذا ، ويكون إيقاعه الفرقة بينهما واجبا عليه ، واستدلوا جميعا على أن  الفرقة لا تقع بلعان الزوج وحده   بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين الزوجين وفرق بينهما ، فلما فرق بينهما بعد لعانهما دل على أنها لا تقع بلعان أحدهما ، وجعل  مالك   حكمه بالفرقة بعد لعانهما تنفيذا ، وجعله  أبو حنيفة   إيقاعا ، ولأن  العجلاني   قال : إن أمسكتها فقد كذبت عليها وهي طالق ثلاثا ، ولو وقعت الفرقة بلعانه لأنكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله من إمساكها ، وما أوقعه من طلاقها ، وفي إقراره على ذلك دليل على أن الفرقة لم تقع بينهما ، واستدل أصحاب  أبي حنيفة   بأنها فرقة لا يثبت سببها إلا عند الحاكم ، فلم تقع بينهما إلا بحكم الحاكم ، كالعنة التي لم يثبت سببها في ضرب المدة إلا بحكم الحاكم ، ولم تقع الفرقة فيها إلا بحكم ، ولأن اللعان سبب يخرج به القاذف من قذفه فوجب أن لا تقع الفرقة إلا بحكم كالبينة .  
ولأن الفرقة لا تقع إلا بما يختص بألفاظها من صريح أو كناية ، وليس في اللعان صريح ولا كناية ، ودليلنا ما روي  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال  للعجلاني   حين عرض عليه اللعنة الخامسة بعد الشهادات الأربع : " إنها الموجبة "  إبانة عنها في وقوع أحكام اللعان بها ، فدل ثبوتها بلعان الزوج وحده ، وهذا دليل على جماعتهم .  
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا .  
وقد روى  أبو مالك   ، عن  عاصم   ، عن  زر   ،  عن  علي   ،  وعبد الله بن مسعود   أنهما قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان أبدا     . وذلك إشارة إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجعل لغيرهما تأثيرا في وقوع الفرقة بينهما . وهذا يدفع قول  أبي حنيفة   ، وروى  سعيد بن جبير   ، عن  ابن عباس   أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين : " حسابكما على الله ، لا سبيل      [ ص: 53 ] لك عليها " قال : يا رسول الله ، مالي ؟ قال : " لا مال لك ، إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كاذبا فهو أبعد لك "     . فكان قوله : لا سبيل لك عليها إخبارا عن وقوع الفرقة بينهما ، وليس بإيقاع للفرقة ، لأن إيقاع الفرقة أن يقول : " قد فرقت بينكما " فدل ما أخبر به من وقوع الفرقة على تقدمها قبل خبره ، ويدل عليه من طريق المعنى أنها فرقة تجردت عن عوض ، فإذا لم يجز تفرد الزوجة بها جاز أن ينفرد الزوج بها كالطلاق ، ولأنه قول يمنع إقرار الزوجين على الزوجية ، فوجب أن يكون حكم الحاكم فيه تنفيذا لا إيقاعا كالبينة على الطلاق والإقرار به ، ولأن الأقوال المؤثرة في الفرقة لا يفتقر إلى وجودها من جهتها كالطلاق ، ولأن اللعان يمين عندنا وشهادة عند  أبي حنيفة   ، والحكم بكل واحد منه بتنفيذ وليس بإيقاع ، ولأن حكم التنفيذ يجوز من غير طلب كالحاكم بشهادة أو يمين ، وحكم الإيقاع لا يجوز إلا بعد الطلب كالفسخ في العنة والإعسار بالنفقة ،  وفرقة اللعان لا تفتقر إلى طلب   فدل على اختصاصها بالتنفيذ دون الإيقاع ، ولأن اللعان تقع به الفرقة ، وينتفي به النسب ، فلما اختص نفي النسب بلعان الزوج وجب أن يكون وقوع الفرقة بمثابته ؛ لأنه أحد حكمي اللعان .  
فإن منعوا من نفي اللعان النسب بلعان الزوج وحده ، وادعوا أنه لا ينتفي إلا بالحكم بعد لعانهما . كان فاسدا من وجهين :  
أحدهما : أن  لعان الزوج يتضمن نفي النسب   ،  ولعان الزوجة يتضمن إثبات النسب   ، وإذا اختلفا في النفي والإثبات لم يجز أن يتعلق نفيه إلا بقول النافي دون المثبت اعتبارا بالموافقة .  
والثاني : أن الاعتبار في ثبوت النسب ونفيه بالزوج دون الزوجة ؛ لأنه لو أقر به ونفته ، لم يؤثر نفيها ، ولو نفاه وأقرت به لم يؤثر إقرارها ، ولو استلحقه بعد نفيه بلعانهما ألحق به وإن أقامت على نفيه عنه ، فاقتضى بهذين أن يكون نفي النسب مختصا بلعان الزوج ، وإذا اختص به كانت الفرقة بمثابته ، وأما الجواب عن استدلالهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الزوجين بعد لعانهما ، فهو أنها قضية في عين لا يدعى فيها العموم فاحتمل أن يفرق بينهما في المكان ، واحتمل أن يفرق بينهما في النكاح ، ويحتمل وهو الأشبه أن يكون أخبرهما بوقوع الفرقة بينهما ؛ لأنه قد روي فيه : " وألحق الولد بأمه ، وقد كان لاحقا بها " وإنما أخبر بلحوقه بها دون الزوج ، وأما حديث  العجلاني   وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه وقوع الطلاق منه ، فقد أنكره بقوله : " لا سبيل      [ ص: 54 ] لك عليها أبدا " ولو وقعت الفرقة بالطلاق لكان له عليها سبيل ، وأما قياسهم على العنة فالجواب عنه ، المعارضة في معنى الأصل من أحد وجهين .  
إما لأن الفرقة في العنة لا تمضي إلا بعد الطلب ، وفي اللعان تمضي بغير طلب فصارت تلك الفرقة إيقاعا وهذه تنفيذا .  
وإما لأن العنة يجوز إقرارهما عليها ، ولا يجوز إقرارهما بعد اللعان فصارت تلك الفرقة إيقاعا وهذه تنفيذا ، وهو جواب عن قياسهم على البينة ، وأما قولهم : إنه ليس بصريح ، ولا كناية فعنه جوابان :  
أحدهما : أن ذلك مراعى في الطلاق دون غيره من الفسوخ .  
والثاني : أن اللعان صريح في أحكامه المختصة به .  

 
				
 
						 
						

 
					 
					