[ ص: 102 ] الباب الثاني 
في 
أحكام القذف 
وفي التنبيهات : للحد عشرة شروط ، ستة في المقذوف ، وأربعة في القاذف : أن يكون المقذوف عاقلا ، مسلما ، حرا ، بالغا  للتكليف إن كان ذكرا ، أو قدر الوطء إن كان أنثى ، وإن لم تبلغ التكليف ، وفيه خلاف ، بريء من الفاحشة التي قذف بها معه إليها ، وأن يكون القاذف عاقلا ، بالغا ، صرح بالقذف ، أو عرض به ، يمكن إقامة الحد عليه لصحته . وفي الجواهر : يحد المحصن ، وهو الذي اجتمعت شروطه ، منها العفة  ، ومعناها : أن لا يكون معروفا بالقيان ، ومواضع الفساد ، والزنا . ولا يسقط الحد كونه معروفا بالظلم ، والغصب ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، ويسقط الإحصان كل وطء يوجب الحد  ، بخلاف الذي لا يوجبه ، كوطء الأمة المشتركة ، والمحرمة بالرضاع ونحوه ، وكذلك وطء الشبهة أو في الصبا    . ويسقط إحصان المقذوف بالوطء الطارئ بعد القذف ، وقاله ( ش ) و ( ح ) . وأن الشروط يعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد ; لأنه لو ارتد ، لم يقم الحد ; ولأن طروءه ينبه أنه تقدم منه ، وقال  أحمد     : لا يسقط . كما لو زنى بأمة ، ثم اشتراها ، أو سرق عينا فنقصت قيمتها ، أو ملكها ، ومنع استدامة الشروط ، إلا إلى حين توجه الحد . ومتى سقط الإحصان بالزنا مرة ، لم يعد بالعدالة بعده . وروى  عبد الملك     : إن قذف من حد بالزنا بعد أن حسنت توبته ، لم يحد . 
 [ ص: 103 ] تنبيه : ينبغي أن يزاد في شروط المقذوف : أن يكون معروفا  ، فإن المجهول لا يحد له ، لكن ترك ; لأن تلك الشروط لا تعلم إلا في معروف ، وكون الإحصان لا يعود بعد العدالة ( نقله صاحب النوادر وغيره ) ، ومستنده ، أن المراد بالعفاف : العفاف المطلق ، بدليل قوله تعالى : ( الغافلات ) أي : اللاتي لم يخطر لهن الفساد ، ولا يشعرن به قط ، فتحمل الآية الأخرى على هذه ; لأنها مطلقة وتلك مقيدة ، وهي قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء    ) ، وهذا قد شهر بالزنا وفعله ، فلا يكون ممن يحد له . والأصل : عدم الحد ، بل يؤدب على القاعدة . وأصل هذا الباب : قوله تعالى : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم    ) . وللإحصان في القرآن أربعة معان : العفاف ، وهو المراد بهذه الآية ، والثاني : الزوجات ، في قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم    ) ، وقوله تعالى : ( محصنات غير مسافحات    ) ، والثالث : الحرية في قوله تعالى : ( فإذا أحصن    ) ، ووافقنا الأئمة على شروط الإحصان ، غير أنهم قالوا : لا بد من البلوغ قياسا على العقل ، ولم يخالف في العبد إلا  داود     . لنا : أنه قاصر عن رتبة الإجماع ، فلا ينهض للحد ، وقوله - عليه السلام -   [ ص: 104 ]   ( من أشرك بالله فليس بمحصن   ) . والرق من جرائر الكفر ، والأصل : بقاء عدم الاعتبار ، وأما شرائط القاذف ; فلأن العقوبة تعتمد التكليف ، والقدرة على الوفاء بما وجب عليه . 
نظائر 
قال صاحب الخصال : عشرة لا حد على قاذفهم    : الصبي ، والعبد ، والأمة ، والذمي ، والمحدود في الزنا ، والمرجوم في الزنا . والمنبوذ ، ومن ليس معه متاع الزنا ، والولد يقذفه والده ( استبعد  مالك  حده ) . فرع : 
في الكتاب : المشهود عليه بالقذف . إقامة بينة : أربعة بأن المقذوف زنى فيسقط عنه الحد لانخرام الإحصان ، وعدم الكذب عليه . 
فرع : 
قال : يحد الذمي للمسلم ثمانين    ; لأنه من باب العلم فيقام عليه بخلاف الزنا . 
فرع : 
قال : ليس للقاذف تحليف المقذوف أنه زنى    : وإن علم من نفسه أنه زنى ، جاز له حده ; لأن الستر مأمور به . 
 [ ص: 105 ] فرع : 
قال : إذا شهد عليه رجل أنه قذفه يوم الخميس ، وآخر أنه قذفه يوم الجمعة  ، حد كالطلاق والعتاق . 
فرع : 
لقذف الجماعة في مجلس واحد أو مجالس  حد واحد ، وإن قام به واحد سقط كل قذف قبله ، ( وقاله ( ح ) ، وقال   الشافعي     : إن قذفهم بكلمات متفرقة  ، فعليه لكل واحد حد ، ( وقاله  أحمد     ) ، أو بكلمة واحدة ، فقولان : عند ( ش )  وأحمد  ، وبناها الحنفية على أنه حق لله تعالى ، فصح التداخل ، وبناها الآخرون على أنها حق لآدمي ، فصح التعدد ، ويلزمه أن يكون - عندنا - قولان ، بناء على أنه حق لله تعالى أم لا . وقد حكاه  العبدي  في نظائره ،  واللخمي  وغيره . لنا : أن  هلال بن أمية العجلاني  رمى امرأته  بشريك بن سحماء  ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حد في ظهرك أو تلتعن ) ، فلم يقل : حدان . وجلد  عمر     - رضي الله تعالى عنه - الشهود على  المغيرة  بالزنا حدا واحدا لكل واحد ، مع أن كل واحد قذف  المغيرة  ، والمؤتى بها . وجلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قذفة عائشة  ثمانين ثمانين ، منهم  حسان    ( رواه  أبو داود     ) ، مع أنهم قذفوا عائشة  ،   وصفوان بن المعطل     . وقياسا على الزنا ; ولأنه لو قذف ألفا فمات قبل إقامة الحدود ، وقد يسقط بالشبهة كما تسقط سائر الحدود فتتداخل مثلها . احتجوا بأنه قذف جماعة ، فلا تداخل ، كما لو قذف زوجاته الأربع  لاعن أربع لعانات . ولأنه حق الآدمي ، فلا يقاس على الحدود ; ولأنها لا تسقط بالرجوع ، فلا تتداخل كالإقرار بالمال . 
 [ ص: 106 ] والجواب عن الأول : أنه أيمان ، والأيمان لا تتداخل بخلاف الحدود . 
وعن الثاني : بأنه لا يتكرر في الشخص ، فلو غلب فيه حق الآدمي ، لتكرر فيه كتكرر الإتلاف . 
وعن الثالث : أن الإقرار لا يتداخل في المتباينات ، ولو قال له : يا لائط ، يا زاني ، تداخل . 
قاعدة : مقابلة الجمع بالجمع في اللغة : تارة تتوزع الأفراد على الأفراد ، نحو : الدنانير للورثة ، وتارة يثبت أحد الجمعين لكل فرد من الجمع الآخر ، نحو : الثمانون جلدة للقذفة ، وتارة يثبت الجمع ، ولا يحكم على الأفراد ، نحو : الحدود للجنايات إذا قصد أن المجموع للمجموع . وإذا اختلفت أحوال المقابلة بطل كونه حقيقة في أحدهما ، لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز ، وبطل تخيل من اعتقد أن قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات    ) يقتضي أن قذف الجماعة له حد واحد ; لأنه قابل الذين ، وهو جمع بالمحصنات ، وهو جمع ، فيحصل أن الجميع إذا رمى الجميع يجب ثمانون فقط . خالفنا ذلك في قذف الجمع للجمع    . والواحد يبقى على مقتضاه في قذف الواحد للجمع  ، قاله   الطرطوشي  وغيره ، فيمنع كون ذلك مقتضاه . 
نظائر : قال  العبدي     : التسوية بين الواحد والجمع ، والقليل والكثير في تسع مسائل : من قذف رجلا فعليه حد ، أو جماعة فحد ، وقيل : يتعدد ، وصاع في المصراة الواحدة والجمع ، وقيل : يتعدد ، والحالف بنحر ولده عليه هدي   [ ص: 107 ] وكذلك الجمع ، وقيل يتعدد الهدي ، ومؤخر قضاء رمضان سنة ، عليه كفارة واحدة ، وكذلك السنون ، والواطئ في رمضان مرة أو مرارا سواء ، والحلف إذا تكرر كالمرة الواحدة ، كفارة واحدة ، والمتطيب في الحج مرة ، عليه الفدية ، وكذلك المرار إذا اتحد السبب ، والحالف بصدقة ماله مرة أو مرارا ، عليه الثلث ، ويغسل الإناء من ولوغ الكلب ، وكذلك الكلاب سبعا . 
فرع : 
في الكتاب : إذا حد له ، ثم قذفه  ، حد له . والفرق : أنه إذا قذفه مرارا قبل الحد  ، أجزأه حد . إنا بينا أن الحد السابق لم يف بكفه عن الجناية ، بخلاف إذا لم يتقدم . وإن ضرب أسواطا ، فقذف آخر ، وقذف الأول  ابتدئت ثمانون من حين القذف ، ولا يعتد بما مضى . قال  اللخمي  عن  مالك     : إن لم يمض إلا أيسره أجزأه إتمامه لهما ، أو بقي أيسره نحو ثلاثة ، أكمل هذا واستؤنف الآخر ، وقال  أشهب     : العشرة قليل ، وإن قذفه فحد له ، ثم قذفه بغيره  حد له أو به بأن يقول : صدقت عليك ، فاختلف : قال  محمد     : يحد له ، وقيل : لا شيء عليه إلا العقوبة ، وقد كان  أبو بكرة  بعد الجلد متماديا على قوله ، وقوله في الكتاب : إذا قذف وهو يضرب  ، يستأنف ، وهو على قوله : يحد للجماعة حدا واحدا ، وعلى القول بالتعدد يتم الأول ، ويستأنف الثاني . وفي النوادر : قال  المغيرة     : إن قذف جماعة ، فقاموا جميعا ، فحد واحد ، أو متفرقين ، حد لكل واحد ، قال  ابن القاسم     : إن قذفهم ، ثم شرب خمرا ، فحد فيه  أجزأه ما تقدم من قذف وشرب ; لأن الشرب من حد القذف مستخرج . وإن قال لجماعة : أحدكم زان ، أو يا ابن   [ ص: 108 ] الزانية  لم يحد ; لأنه لا يعرف المراد ، فإن قام به جميعهم ، فقيل : لا حد عليه لعدم التعيين ، فالنكاية في العرض ضعيفة لعدم التعيين ، فإن قام أحدهم ، وادعى أنه أراده ، لم يقبل إلا بالبيان ، فإن عرف من أراده ، لم يحده الإمام إلا بقيام المقذوف ، ومن قذف من لا يعرف  لا حد عليه . وإن قال : يا زوج الزانية ، وتحته امرأتان ، فعفت إحداهما ، وقامت الأخرى ، حلف ما أراد إلا الذي عفت  ، فإن نكل حد . وفي المنتقى ، عند  أشهب  ثلاثة أقسام : إن ذهب اليسير تمادى وأجزأ لهما ، أو النصف وما يقرب منه ، استؤنف لهما ، أو بقي اليسير لم يستأنف للثاني ، وعند  ابن القاسم     : قسمان : إن مضى من الحد الأول شيء ، استؤنف من حين القذف للثاني ، ولا يحتسب بالماضي ، وإن بقي اليسير تمم الأول واستؤنف الثاني . 
فرع : في المنتقى : من قذف مجهولا  ، لم يحد ; لعدم النكاية ، ( قاله  محمد     ) . 
فرع : 
قال : من شروط وجوبه : قيام الولي ، ولو سمع الإمام رجلا يقذف  ، لم يكن عليه تعريف المقذوف ، فإن قام به ، تعلق به حق الله ، وإلا فلا . وعلى هذا قوله - عليه السلام - ( واغد يا  أنيس  على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها   ) . قال العلماء : ليس الإرسال حرصا على الاعتراف ; لأمره - عليه السلام - بالتستر ، بل أنها قذفت ، فيكون تعريفه - عليه السلام - لا على سبيل الوجوب . وفي التنبيهات : مذهب  ابن حبيب     : أن قيام الولي ليس شرطا ، ويحده وإن كان المقذوف غائبا ; لأنه حق الله . 
 [ ص: 109 ] فرع : 
في الكتاب : لا عفو في حد القذف ، إذا بلغ الإمام  أو صاحب الشرط أو الحرس ، إلا أن يريد المقذوف سترا ، ويجوز العفو فيه ، والشفاعة إذا بلغ الإمام ، وإن صدر موجب التعزير من عفيف ذي مروءة ، وهي طائرة منه ، تجافى الإمام عنه ، فإن عفا عن القاذف قبل بلوغ الإمام ولم يكتب بذلك كتابا  ، فلا قيام له ، وكذلك النكول ، ويجوز العفو عن القصاص مطلقا وإن عفا على أنه متى شاء قام ، وكتب بذلك وأشهد له ، فذلك له ولورثته . وفي التنبيهات : في العفو عن القاذف  ثلاثة أقوال : يجوز وإن بلغ الإمام ، ويمتنع إن لم يبلغ الإمام ، ويمتنع إذا بلغ الإمام ، إلا أن يريد سترا ، وقيل : إن أراد سترا لا يختلف في جوازه ، وعلى المنع مطلقا يقوم به بعد العفو . وقوله : طائرة ، أي : كلمة انفلتت منه ليست بعادة ، ويجافي الإمام بعده عن عقوبته . قال  ابن يونس     : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب   ) رواه  ابن وهب     . قال  محمد     : إنما يجوز العفو إذا قذفه في نفسه ، أما أحد أبويه وقد مات ، فلا عفو بعد بلوغ الإمام وإن أراد الستر ، وقاله  ابن القاسم  وأشهب  ، ويجوز عفو الولد عن الأب عند الإمام  ، ( قاله  مالك  وأصحابه ) إن قذفه في نفسه ، وكذلك حده لأبيه ، بخلاف حده لأمه . وإذا قال الشهود : قذفك ، وقال : لم يقذفني ، ردت الشهادة ، إلا أن يكون القذف أمامهم ، وادعى ذلك ، ثم أكذبهم بعد أن شهدوا عند الإمام ، أو قال : ما قذفني ، فإنه حد وجب ، وإذا هم الإمام بضربه فأقر المقذوف بالزنا   [ ص: 110 ] وصدقه ، وثبت على إقراره  ، حد للزنا ولم يحد الآخر ، للقذف ، وإن رجع عن إقراره ، لم يحد . وحد القاذف ، قاله  أصبغ     . وقال  عبد الملك     : إن رجع عن إقراره بفور يدرأ عنه الحد وعن القاذف بإقراره ، ما لم يتبين أنه أراد بإقراره إسقاط الحد . قال  مالك     : لا يجوز أخذ مال على إسقاط الحد ، فإن فعل لم يسقط . في النوادر : ومعنى قول  مالك     : أراد سترا ، أن يكون ضرب الحد قديما ، فيخاف أن يظهر ذلك عليه الآن ، فأما إن عمل شيئا لم يعلمه أحد إلا نفسه ، حرم عفوه . قال  أصبغ     : فإن قال : أردت سترا لم يقبل منه ، ويكشف ذلك الإمام ، فإن خاف أن يثبت عليه أجاز عفوه وإلا لم يجزه . قال  عبد الملك     : معنى قول  مالك  أراد سترا : أن مثله يفعل ذلك ، جاز عفوه ، ولم يكلف أن يقول : أردت سترا ; لأن قول ذلك عار ، وأما العفيف الفاضل ، فلا يجوز عفوه . وفي الموازية عن  مالك     : للمقذوف أن يكتب كتابا بقذفه يقوم به متى شاء ، وكرهه  مالك  ، وقال : ما هو من عمل الناس . قال  ابن يونس     : معنى أراد سترا : أنه إن لم يعف عنه ، أثبت ذلك عليه ولم يفصل بين حده قبل ذلك ولا غيره ، وقاله في المنتقى ، ومعناه : قبل بلوغ الإمام ; لأن بعد بلوغه يتعين إيقاعه . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					