معرفة آداب طالب الحديث
وقد اندرج طرف منه في ضمن ما تقدم .
فأول ما عليه تحقيق الإخلاص ، والحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية . 
روينا عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : " من طلب الحديث لغير الله مكر به " .
وروينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال : " ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله به " .  وروينا نحوه عن ابن المبارك رضي الله عنه . 
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له : " بأي نية أكتب الحديث ؟ " فقال : " ألستم [ ص: 246 ] تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ " قال : " نعم " ، قال : " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس الصالحين " . 
وليسأل الله تبارك وتعالى التيسير ، والتأييد ، والتوفيق ، والتسديد ، وليأخذ نفسه بالأخلاق الزكية ، والآداب المرضية ، فقد روينا عن أبي عاصم النبيل ، قال : " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ، فيجب أن يكون خير الناس " . 
وفي السن الذي يستحب فيه الابتداء بسماع الحديث ، وبكتبته اختلاف ، سبق بيانه في أول النوع الرابع والعشرين . 
وإذا أخذ فيه فليشمر عن ساق جهده ، واجتهاده ، ويبدأ بالسماع من أسند شيوخ مصره ، ومن الأولى فالأولى من حيث العلم ، أو الشهرة ، أو الشرف ، أو غير ذلك . 
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره . 
روينا عن يحيى بن معين أنه قال : " أربعة لا تؤنس منهم رشدا : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " . 
وروينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل [ ص: 247 ] الرجل في طلب العلو ؟ " فقال : " بلى ، والله شديدا ، لقد كان علقمة ، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه ، فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر رضي الله عنه فيسمعانه منه " ، والله أعلم . 
وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : " إن الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث " . 
ولا يحملنه الحرص ، والشره على التساهل في السماع ، والتحمل ، والإخلال بما يشترط عليه في ذلك ، على ما تقدم شرحه . 
وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة ، فذلك زكاة الحديث ، على ما روينا عن العبد الصالح بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه ، وروينا عنه أيضا أنه قال : " يا أصحاب الحديث ، أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث " . 
وروينا عن عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه ، قال : " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " . 
وروينا عن وكيع ، قال : " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به " . 
وليعظم شيخه ، ومن يسمع منه ، فذلك من إجلال الحديث ، والعلم ، ولا يثقل عليه ، ولا يطول بحيث يضجره ، فإنه يخشى على [ ص: 248 ] فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع ، وقد روينا عن الزهري أنه قال : " إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب " ، ( والله أعلم ) . 
ومن ظفر من الطلبة بسماع شيخ فكتمه غيره ، لينفرد به عنهم ، كان جديرا بأن لا ينتفع به ، وذلك من اللؤم الذي يقع فيه جهلة الطلبة الوضعاء ، ومن أول فائدة طلب الحديث الإفادة ، روينا عن مالك رضي الله عنه أنه قال : " من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا " . 
وروينا عن إسحاق بن إبراهيم راهويه أنه قال لبعض من سمع منه في جماعة : " انسخ من كتابهم ما قد قرأت ، فقال : إنهم لا يمكنونني ، قال : إذا والله لا يفلحون ، قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ، ولا أنجحوا " . 
قلت : وقد رأينا نحن أقواما منعوا السماع فما أفلحوا ، ولا أنجحوا ، ونسأل الله العافية ، والله أعلم . 
ولا يكن ممن يمنعه الحياء ، أو الكبر عن كثير من الطلب .  وقد روينا عن مجاهد رضي الله عنه أنه قال : " لا يتعلم مستح ولا مستكبر " ، وروينا عن عمر بن الخطاب ، وابنه رضي الله عنهما أنهما قالا : " من رق وجهه رق علمه " . 
ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه .  روينا عن [ ص: 249 ] وكيع بن الجراح رضي الله عنه أنه قال : " لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه " ، وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في الاستكثار من الشيوخ ، لمجرد اسم الكثرة وصيتها . 
وليس من ذلك قول أبي حاتم الرازي : " إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش " . 
وليكتب ، وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ، ولا ينتخب .  فقد قال ابن المبارك رضي الله عنه : " ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت " .  وروينا عنه أنه قال : " لا ينتخب على عالم إلا بذنب " ، وروينا - أو بلغنا - عن يحيى بن معين أنه قال : " سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة " . 
فإن ضاقت به الحال عن الاستيعاب ، وأحوج إلى الانتقاء ، والانتخاب ، تولى ذلك بنفسه إن كان أهلا مميزا ، عارفا بما يصلح للانتقاء ، والاختيار ، وإن كان قاصرا عن ذلك استعان ببعض الحفاظ لينتخب له .  وقد كان جماعة من الحفاظ متصدين للانتقاء على الشيوخ ، والطلبة تسمع وتكتب بانتخابهم ، منهم إبراهيم بن أرمة الأصبهاني ، وأبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل ، وأبو الحسن الدارقطني ، وأبو بكر الجعابي ، في آخرين . 
[ ص: 250 ] وكانت العادة جارية برسم الحافظ علامة في أصل الشيخ على ما ينتخبه ، فكان النعيمي أبو الحسن يعلم بصاد ممدودة ، وأبو محمد الخلال بطاء ممدودة ، وأبو الفضل الفلكي بصورة همزتين ، وكلهم يعلم بحبر في الحاشية اليمنى من الورقة ، وعلم الدارقطني في الحاشية اليسرى بخط عريض بالحمرة ، وكان أبو القاسم اللالكائي الحافظ يعلم بخط صغير بالحمرة على أول إسناد الحديث ، ولا حجر في ذلك ولكل الخيار . 
ثم لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث ، وكتبه دون معرفته ، وفهمه ، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل ، وبغير أن يحصل في عداد أهل الحديث ، بل لم يزد على أن صار من المتشبهين المنقوصين ، المتحلين بما هم منه عاطلون . 
قلت : أنشدني أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد السمعاني رحمه الله - لفظا - بمدينة مرو ، قال : أنشدنا والدي - لفظا ، أو قراءة عليه - قال : أنشدنا محمد بن ناصر السلامي من لفظه ، قال : أنشدنا الأديب الفاضل فارس بن الحسين لنفسه :
يا طالب العلم الذي  ذهبت بمدته الروايه  
    كن في الرواية ذا العنا  
ية بالرواية والدرايه  
    وارو القليل وراعه  
فالعلم ليس له نهايه  
[ ص: 251 ] وليقدم العناية بالصحيحين ، ثم بسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وكتاب الترمذي ، ضبطا لمشكلها ، وفهما لخفي معانيها ، ولا يخدعن عن كتاب السنن الكبير للبيهقي ، فإنا لا نعلم مثله في بابه . 
ثم بسائر ما تمس حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المساند كمسند أحمد ، ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها ، وموطأ مالك هو المقدم منها . 
ومن كتب علل الحديث ، ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل ، وكتاب العلل عن الدارقطني  . 
ومن كتب معرفة الرجال وتواريخ المحدثين ، ومن أفضلها ( تاريخ البخاري الكبير ) و ( كتاب الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم . 
ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء ، ومن أكملها " كتاب الإكمال " لأبي ناصر بن ماكولا . 
وليكن كلما مر به اسم مشكل ، أو كلمة من حديث مشكلة ، بحث عنها ، وأودعها قلبه ، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في يسر . 
وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الأيام والليالي ، فذلك أحرى بأن يمتع بمحفوظه . 
وممن ورد ذلك عنه من حفاظ الحديث المتقدمين : شعبة ، وابن علية  ، ومعمر  . 
وروينا عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : " من [ ص: 252 ] طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديثا ، وحديثين " .
وليكن الإتقان من شأنه ، فقد قال عبد الرحمن بن مهدي : " الحفظ الإتقان " . 
ثم إن المذاكرة بما يتحفظه من أقوى أسباب الإمتاع به ، روينا عن علقمة النخعي قال : " تذاكروا الحديث ، فإن حياته ذكره " .  وعن إبراهيم النخعي قال : " من سره أن يحفظ الحديث ، فليحدث به ، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه " . 


						
						
