ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا     . 
عطف " لا يأب " على واستشهدوا شهيدين  لأنه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نهى من يطلب إشهاده عن أن يأبى ليتم المطلوب وهو الإشهاد . 
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماما بما فيه التفريط ، فإن المتعاقدين يظن بهما إهمال الإشهاد فأمرا به ، والشهود يظن بهم الامتناع فنهوا عنه ، وكل يستلزم ضده . 
وتسمية المدعوين شهداء باعتبار الأول القريب ، وهو المشارفة ، وكأن في ذلك نكتة عظيمة ، وهي الإيماء إلى أنهم بمجرد دعوتهم إلى الإشهاد ، قد تعينت عليهم الإجابة ، فصاروا شهداء . 
وحذف معمول " دعوا " إما لظهوره من قوله - قبله - واستشهدوا شهيدين  أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمل ، وهذا قول قتادة  والربيع بن سليمان ،  ونقل عن  ابن عباس  ، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأولى ، ويجوز أن يكون   [ ص: 113 ] حذف المعمول لقصد العموم ، أي : إذا ما دعوا للتحمل والأداء معا . قاله الحسن  ،  وابن عباس  وقال مجاهد    : إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة ، ولعل الذي حمله على ذلك هو قوله " الشهداء " لأنهم لا يكونون شهداء حقيقة إلا بعد التحمل ويبعده أن الله تعالى قال بعد هذا : ولا تكتموا الشهادة  وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء . 
والذي يظهر أن حذف المتعلق بفعل " دعوا " لإفادة شمول ما يدعون لأجله في التعاقد : من تحمل عند قصد الشهادة ، ومن أداء عند الاحتياج إلى البينة ، قال  ابن الحاجب    : والتحمل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين - إن كانا اثنين - فرض عين ، ولا تحل إحالته على اليمين . 
والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله : ولا يأب كاتب  ويظهر أن التحمل يتعين بالتعيين من الإمام ، أو بما يعينه ، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلا لضرورة فينتقل المتعاقدان الآخران ، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه أو ماله ، وعند أبي حنيفة  الأداء فرض كفاية إلا إذا تعين عليه بأن لا يوجد بدله . وإنما يجب بشرط عدالة القاضي وقرب المكان بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه ، وعلمه بأنه تقبل شهادته وطلب المدعي . وفي هذه التعليقات رد بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود ، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه . 
قال القرطبي    : يؤخذ من هذه الآية أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهودا ، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال ، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها ، قلت : وقد أحسن قضاة تونس  المتقدمون وأمراؤها ، في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس ، يؤخذون ممن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة ، وكذلك كان الأمر في الأندلس  ، وذلك من حسن النظر للأمة ، ولم يكن ذلك متبعا في بلاد المشرق ، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكتب الوثائق فيعتمدهم القضاة ، ويكلون إليهم ما يجري في النوازل من كتابة الدعوى والأحكام ، وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال : كان مقبولا عند القاضي فلان . 
 [ ص: 114 ]   ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله     ) تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها ، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل . والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة ، فلذلك نهوا عن السآمة هنا ، والسآمة : الملل من تكرير فعل ما . 
والخطاب للمتداينين أصالة ، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب ؛ لأن المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب . 
والنهي عنها نهي عن أثره ، وهو ترك الكتابة لأن السآمة تحصل للنفس من غير اختيار ، فلا ينهى عنها في ذاتها ، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون ، وانتصب ( صغيرا أو كبيرا    ) على الحال من الضمير المنصوب بـ ( تكتبوه    ) أو على حذف ( كان ) مع اسمها . وتقديم الصغير على الكبير هنا ، مع أن مقتضى الظاهر العكس كتقديم السنة على النوم في قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم  لأنه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهمات في قلة الاعتناء بالصغير ، وهو أكثر ، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير ، لو اقتصر في اللفظ على الصغير . 
وجملة ( إلى أجله    ) حال من الضمير المنصوب بـ ( تكتبوه    ) أي مغيى الدين إلى أجله الذي تعاقدا عليه ، والمراد التغيية في الكتابة . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					