أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم   إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين  وإن ربك لهو العزيز الرحيم  
الواو عاطفة على جملة ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين    ) ، فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظا ؛ لأن للاستفهام الصدارة ، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات ؛ لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات ، والآيات على صحة ما يدعوهم إليه القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السماوات والأرض وهم قد عموا عنها فأشركوا بالله ، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وكون القرآن منزلا من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذكروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض  وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون    ) أي : عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان 
فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله ؛ لأن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلا عن واحد لا شريك له  ، وهذا دليل من طريق العقل ، ودليل أيضا على إمكان البعث ؛ لأن الإنبات بعد الجفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم  كما قال تعالى : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها    ) وهذا دليل تقريبي   [ ص: 101 ] للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما : أصل الإشراك بالله ، وأصل إنكار البعث 
والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك ؛ لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلالة بينة لكل من يراه ، فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك ، والمقصود إنكار عدم الاستدلال به 
وجملة ( كم أنبتنا    ) بدل اشتمال من جملة يروا ، فهي مصب الإنكار . وقوله : ( إلى الأرض    ) متعلق بفعل يروا ، أي : ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم . 
و ( كم ) اسم دال على الكثرة ، وهي هنا خبرية منصوبة بـ ( أنبتنا    ) . والتقدير : أنبتنا فيها كثيرا من كل زوج كريم . 
و ( من ) تبعيضية ، ومورد التكثير الذي أفادته ( كم ) هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة ، ومورد الشمول المفاد من ( كل ) هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع ، واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز ( كم ) ؛ لأنه قد علم من التبعيض . 
والزوج : النوع ، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين    ) على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد ، وتقدم قوله تعالى : ( فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى    ) في طه . 
والكريم : النفيس من نوعه ، قال تعالى : ( ورزق كريم    ) في الأنفال ، وتقدم عند قوله تعالى : ( مروا كراما    ) في سورة الفرقان . وهذا من إدماج الامتنان في ضمن الاستدلال ؛ لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيره ، ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاء بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال . وأيضا فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذ وأشهر لأنه يبتدئ بطلب المنفعة منها والإعجاب بها ، فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغبون فيه . 
 [ ص: 102 ] والمشار إليه بـ ( ذلك ) هو المذكور من الأرض ، وإنبات الله الأزواج فيها ، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة . 
والتأكيد بحرف ( إن ) لتنزيل المتحدث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها ، وإفراد ( آية ) لإرادة الجنس ، أو ؛ لأن في المذكور عدة أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع . 
وجملة ( وما كان أكثرهم مؤمنين    ) عطف على جملة ( إن في ذلك لآية    ) إخبارا عنهم بأنهم مصرون على الكفر بعد هذا الدليل الواضح ، وضمير ( أكثرهم    ) عائد إلى معلوم من المقام كما عاد الضمير الذي في قوله ( أن يكونوا مؤمنين ) ) ، وهم مشركو أهل مكة وهذا تحد لهم كقوله ( ولن تفعلوا    ) . 
وأسند نفي الإيمان إلى أكثرهم ؛ لأن قليلا منهم يؤمنون حينئذ أو بعد ذلك . 
و ( كان ) هنا مقحمة للتأكيد على رأي سيبويه والمحققين . 
وجملة ( وإن ربك لهو العزيز الرحيم    ) تذييل لهذا الخبر : بوصف الله بالعزة ، أي تمام القدرة فتعلمون أنه لو شاء لعجل لهم العقاب ، وبوصف الرحمة إيماء إلى أن في إمهالهم رحمة بهم لعلهم يشكرون ، ورحيم بك . قال تعالى : ( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب    ) . وفي وصف الرحمة إيماء إلى أنه يرحم رسله بتأييده ونصره . 
واعلم أن هذا الاستدلال لما كان عقليا اقتصر عليه ولم يكرر بغيره من نوع الأدلة العقلية كما كررت الدلائل الحاصلة من العبرة بأحوال الأمم من قوله : ( وإذ نادى ربك موسى    ) إلى آخر قصة أصحاب ليكة    . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					