( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون    ( 5 ) يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون    ( 6 ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين    ( 7 ) ) 
قوله تعالى : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق     ) اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله ( كما أخرجك ربك    ) قال المبرد    : تقديره الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا . وقيل : تقديره امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون . 
وقال عكرمة    : معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم ، كما أن إخراج محمد    - صلى الله عليه وسلم - من بيته بالحق خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم . 
وقال مجاهد    : معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم ، كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه . 
وقيل : هو راجع إلى قوله : " لهم درجات عند ربهم    " تقديره : وعد الله الدرجات لهم حق ينجزه الله - عز وجل - كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، فأنجز الوعد بالنصر والظفر .   [ ص: 328 ] 
وقيل : الكاف بمعنى على تقديره : امض على الذي أخرجك ربك . 
وقال أبو عبيدة    : هي بمعنى القسم مجازا ، والذي أخرجك ؛ لأن " ما " في موضع الذي ، وجوابه " يجادلونك " وعليه يقع القسم . تقديره : يجادلونك والله الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق . وقيل : الكاف بمعنى " إذ " تقديره : واذكر إذ أخرجك ربك . 
قيل : المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة  إلى المدينة    . والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة  إلى بدر  ، أي : كما أمرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة  بالحق - قيل بالوحي - لطلب المشركين ( وإن فريقا من المؤمنين    ) منهم ، ( لكارهون    ) 
( يجادلونك في الحق    ) أي : في القتال ، ( بعد ما تبين ) وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك ، وتبين صدقك في الوعد ، ( كأنما يساقون إلى الموت    ) لشدة كراهيتهم القتال ، ( وهم ينظرون    ) فيه تقديم وتأخير تقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يجادلونك في الحق بعدما تبين . قال ابن زيد    : هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون . 
قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم    ) قال ابن عباس  وابن الزبير   ومحمد بن إسحاق   والسدي  أقبل أبو سفيان  من الشام  في عير لقريش  في أربعين راكبا من كفار قريش  فيهم : عمرو بن العاص  ، ومخرمة بن نوفل الزهري  ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة حتى إذا كانوا قريبا من بدر  ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فندب أصحابه إليه وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش  فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربا . 
فلما سمع أبو سفيان  بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري  ، فبعثه إلى مكة  ، وأمره أن يأتي قريشا  فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا  قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم  سريعا إلى مكة    .   [ ص: 329 ] 
وقد رأت  عاتكة بنت عبد المطلب  قبل قدوم ضمضم  مكة  بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها  العباس بن عبد المطلب   فقالت له : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم علي ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة  ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة . 
فقال العباس    : والله إن هذه لرؤيا رأيت ! فاكتميها ولا تذكريها لأحد . 
ثم خرج العباس  فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس  ، وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد  لأبيه عتبة  ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش    . 
قال العباس    : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام  في رهط من قريش  قعود يتحدثون برؤيا عاتكة  ، فلما رآني أبو جهل  قال : يا أبا الفضل  إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل    : يا بني عبد المطلب  متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ 
قلت : وما ذاك ؟ 
قال : الرؤيا التي رأت عاتكة  
قلت : وما رأت ؟ 
قال : يا بني عبد المطلب  أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة  في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك ما قالت حقا فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب . 
فقال العباس    : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ، ثم   [ ص: 330 ] تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب  إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت 
قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كثير ، وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكه . 
قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة  وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . 
قال : قلت في نفسي : ما له لعنه الله ؟ أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو  ، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش  اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان  قد عرض لها محمد  في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعا فلم يتخلف من أشراف قريش  أحد إلا أن أبا لهب  قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة    . 
فلما اجتمعت قريش  للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث  ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم  وكان من أشراف بني بكر  ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة  من خلفكم بشيء تكرهونه . 
فخرجوا سراعا ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ واديا يقال له ذفران  ، فأتاه الخبر عن مسير قريش   ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالروحاء  أخذ عينا للقوم فأخبره بهم . 
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا عينا له من جهينة  حليفا للأنصار  يدعى عبد الله بن أريقط  فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل جبريل  وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا  ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في طلب العير وحرب النفير  ، فقام أبو بكر  فقال فأحسن ، ثم قام عمر  فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو  فقال : يا رسول الله امض   [ ص: 331 ] لما أراك الله فنحن معك فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل  لموسى    : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون  ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد  يعني مدينة الحبشة  لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا ودعا له بخير . 
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :   " أشيروا علي أيها الناس " وإنما يريد الأنصار  ، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة  قالوا : يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار  ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة  من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم . 
فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له  سعد بن معاذ    : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ 
قال : أجل . 
قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق أعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق في اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد  ونشطه ذلك ، ثم قال :   " سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم "   . 
قال ثابت  عن أنس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :   " هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان " ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم    ) أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان  مع العير والأخرى أبو جهل  مع النفير . 
( وتودون    ) أي : تريدون ( أن غير ذات الشوكة تكون لكم    ) يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة . ويقال السلاح .   [ ص: 332 ] 
( ويريد الله أن يحق الحق    ) أي يظهره ويعليه ، ( بكلماته ) بأمره إياكم بالقتال . وقيل بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه  ، ( ويقطع دابر الكافرين    ) أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					