( وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا    ( 48 ) لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا   ( 49 ) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا   ( 50 ) ) . 
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات  ، أي : بمجيء السحاب بعدها ، والرياح أنواع ، في صفات كثيرة من التسخير ، فمنها ما يثير السحاب ، ومنها ما يحمله ، ومنها ما يسوقه ، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا ، ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض ، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر; ولهذا قال : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا   ) أي : آلة يتطهر بها ، كالسحور والوقود وما جرى مجراه . فهذا أصح ما يقال في ذلك . وأما من قال : إنه فعول  [ ص: 115 ] بمعنى فاعل ، أو : إنه مبني للمبالغة أو التعدي ، فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم ، ليس هذا موضع بسطها ، والله أعلم . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث  ، حدثنا أبي ، عن  أبي جعفر الرازي ،  حدثني حميد الطويل ،  عن ثابت البناني  قال : دخلت مع أبي العالية  في يوم مطير ، وطرق البصرة قذرة ، فصلى ، فقلت له ، فقال : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا   ) قال : طهره ماء السماء . 
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ،  حدثنا وهيب  عن داود ،  عن  سعيد بن المسيب  في هذه الآية : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا   ) [ قال : أنزله الله ماء طاهرا ] لا ينجسه شيء . 
وعن أبي سعيد  قال : قيل : يا رسول الله ، أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يلقى فيها النتن ، ولحوم الكلاب - فقال : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " رواه  الشافعي ،  وأحمد وصححه ، وأبو داود ،   والترمذي  وحسنه ،  والنسائي   . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشعث ،  حدثنا معتمر ،  سمعت أبي يحدث عن سيار ،  عن خالد بن يزيد ،  قال : كان عند  عبد الملك بن مروان ،  فذكروا الماء ، فقال خالد بن يزيد   : منه من السماء ، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق . فأما ما كان من البحر ، فلا يكون له نبات ، فأما النبات فمما كان من السماء  . 
وروي عن عكرمة  قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة  . وقال غيره : في البر بر ، وفي البحر در . 
وقوله : ( لنحيي به بلدة ميتا   ) أي : أرضا قد طال انتظارها للغيث ، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء . فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان ، كما قال تعالى : ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج   ) [ الحج : 5 ] . 
( ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا   ) أي : وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة ، لشربهم وزروعهم وثمارهم ، كما قال تعالى : ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد   ) [ الشورى : 28 ] وقال تعالى : ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير   ) [ الروم : 50 ] . 
وقوله : ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا   ) أي : أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى ، [ فأمطرتها وكفتها فجعلتها غدقا ، والتي وراءها ] لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة . 
 [ ص: 116 ] 
قال ابن مسعود   وابن عباس   : ليس عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم قرأ هذه الآية : ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا   ) . 
أي : ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات . والعظام الرفات . أو : ليذكر من منع القطر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه . 
وقال عمر مولى غفرة   : كان جبريل  ، عليه السلام ، في موضع الجنائز ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل  ، إني أحب أن أعلم أمر السحاب؟ " قال : فقال جبريل   : يا نبي الله ، هذا ملك السحاب فسله . فقال : تأتينا صكاك مختمة : اسق بلاد كذا وكذا ، كذا وكذا قطرة  . رواه ابن حاتم  ، وهو حديث مرسل . 
وقوله : ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا   ) : قال عكرمة   : يعني : الذين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا . 
وهذا الذي قاله عكرمة  كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم ،  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما ، على أثر سماء أصابتهم من الليل : " أتدرون ماذا قال ربكم " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن بالكوكب "  . 


						
						
