المسألة الثانية : فيما روي فيها : ثبت أن  زيد بن ثابت  قال : أرسل إلي  أبو بكر الصديق  مقتل أهل اليمامة  ، فإذا  عمر بن الخطاب  عنده ، فقال : إن القتال قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة  ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تجمع القرآن    . قال أبو بكر   لعمر    : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال  عمر    : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر  عمر  ، ورأيت فيه الذي رأى . قال زيد    : قال أبو بكر    : إنك شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبع القرآن . قال : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك . قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر    : هو والله خير . فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر  حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر   وعمر    . فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب ، وذكر كلمة مشكلة تركناها . قال زيد    : فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت    : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم    } إلى : العظيم انتهى الحديث . 
 [ ص: 608 ] فبقيت الصحف عند أبي بكر  ، ثم تناولها بعده  عمر  ، ثم صارت عند حفصة  رضي الله عنهم ، فلما كان زمن عثمان  حسبما ثبت في الصحيح قدم  حذيفة بن اليمان  على عثمان  ، وكان يغازي أهل الشام  في فتح أرمينية  وأذربيجان  مع أهل العراق  ، فرأى  حذيفة  اختلافهم في القرآن ، فقال  لعثمان بن عفان    : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب ، كما اختلف اليهود  والنصارى    . فأرسل إلى حفصة  أن أرسلي إلينا بالصحف فننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك . فأرسلت حفصة  إلى عثمان  بالصحف ، فأرسل عثمان  إلى  زيد بن ثابت  ،  وسعيد بن العاص  ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام  ،  وعبد الله بن الزبير  أن انسخوا الصحف في المصاحف . وقال للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم  وزيد بن ثابت  فاكتبوه بلسان قريش  ، فإنما نزل بلسانهم ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان  إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا . 
قال الزهري    : وحدثني  خارجة بن زيد بن ثابت  أن  زيد بن ثابت  قال : فقدت آية من سورة كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه    } فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت  أو أبي خزيمة  ، فألحقتها في سورتها . 
قال الزهري    : فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه ، فقال القرشيون : التابوت . وقال زيد  التابوه . فرفع اختلافهم إلى عثمان  فقال : اكتبوه التابوت . فإنه نزل بلسان قريش    . 
قال الزهري    : فأخبرني  عبد الله بن عبد الله بن عتبة  أن  عبد الله بن مسعود  كره  لزيد بن ثابت  نسخ المصاحف ، وقال : يا معشر المسلمين ، أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ، ويتولاها رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد  زيد بن ثابت    . 
ولذلك قال  عبد الله بن مسعود    : يا أهل القرآن ، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ; فإن الله يقول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة    } فالقوا الله بالمصاحف .  [ ص: 609 ] قال الزهري    : فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة  ابن مسعود  رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا حديث صحيح لا يعرف إلا من حديث الزهري    . 
المسألة الثالثة : 
إذا ثبت هذا فقد تبين في أثناء الحديث أن هاتين الآيتين في براءة ، وآية الأحزاب لم تثبت بواحد ، وإنما كانت منسية ، فلما ذكرها من ذكرها أو تذكرها من تذكرها عرفها الخلق ، كالرجل تنساه ، فإذا رأيت وجهه عرفته ، أو تنسى اسمه وتراه ، ولا يجتمع لك العين والاسم ، فإذا انتسب عرفته . 
المسألة الرابعة : من غريب المعاني أن القاضي أبا بكر بن الطيب  سيف السنة ولسان الأمة تكلم بجهالات على هذا الحديث ، لا تشبه منصبه ، فانتصبنا لها لنوقفكم على الحقيقة فيها : أولها : قال  القاضي أبو الطيب    : هذا حديث مضطرب ، وذكر اختلاف روايات فيه ، منها صحيحة ومنها باطلة ، فأما الروايات الباطلة فلا نشتغل بها ، وأما الصحيحة فمنها أنه قال : روي أن هذا جرى في عهد أبي بكر    . 
وفي رواية أنه جرى في عهد عثمان  ، وبين التاريخين كثير من المدة ، وكيف يصح أن نقول هذا كان في عهد أبي بكر  ، ثم نقول : كان هذا في عهد عثمان    ; ولو اختلف تاريخ الحديث في يوم من أوله وآخره لوجب رده ، فكيف أن يختلف بين هاتين المدتين الطويلتين ؟ قال القاضي أبو بكر بن العربي    : يقال للسيف هذه كهمة من طول الضراب ، هذا أمر لم يخف وجه الحق فيه ، إنما جمع زيد  القرآن مرتين : إحداهما لأبي بكر  في زمانه ، والثانية لعثمان  في زمانه ، وكان هذا في مرتين لسببين ولمعنيين مختلفين ، أما الأول : فكان لئلا يذهب القرآن بذهاب القراء ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه : { يذهب العلم في آخر الزمان بذهاب العلماء   } ، فلما تحصل مكتوبا صار عدة لما يتوقع عليه . 
وأما جمعه في زمان عثمان  فكان لأجل الاختلاف الواقع بين الناس في القراءة ، فجمع في المصاحف ليرسل إلى الآفاق ، حتى يرفع الاختلاف الواقع بين الناس في زمن عثمان    . 
 [ ص: 610 ] ثانيها : قال ابن الطيب    : من اضطراب هذا الحديث أن زيدا  تارة قال : وجدت هؤلاء الآيات الساقطة ، وتارة لم يذكره ، وتارة ذكر قصة براءة ، وتارة قصة الأحزاب أيضا بعينها . 
قال القاضي ابن العربي    : يقال للسان : هذه عثرة ، وما الذي يمنع عقلا أو عادة أن يكون عند الراوي حديث مفصل يذكر جميعه مرة ، ويذكر أكثره أخرى ، ويذكر أقله ثالثة ؟ ثالثها : قال ابن الطيب    : يشبه أن يكون هذا الخبر موضوعا ; لأنه قال فيه : إن زيدا  وجد الضائع من القرآن عند رجلين . 
وهذا بعيد أن يكون الله قد وكل حفظ ما سقط وذهب عن الأجلة الأماثل من القرآن برجلين : خزيمة  ، وأبي خزيمة    . 
قال القاضي    : قد بينا أنه يجوز أن ينسى الرجل الشيء ثم يذكره له آخر ، فيعود علمه إليه . 
وليس في نسيان الصحابة كلهم له إلا رجل واحد استحالة عقلا ; لأن ذلك جائز ، ولا شرعا ; لأن الله ضمن حفظه ، ومن حفظه البديع أن تذهب منه آية أو سورة إلا عن واحد ، فيذكرها ذلك الواحد ، فيتذكرها الجميع ; فيكون ذلك من بديع حفظ الله لها . 
قال القاضي ابن العربي    : ويقال له أيضا : هذا حديث صحيح متفق عليه من الأئمة ، فكيف تدعي عليه الوضع ، وقد رواه العدل عن العدل ، وتدعي فيه الاضطراب ، وهو في سلك الصواب منتظم ، وتقول أخرى : إنه من أخبار الآحاد ، وما الذي تضمن من الاستحالة أو الجهالة حتى يعاب بأنه خبر واحد . 
وأما ما ذكرته في معارضته عن بعض رواته أو عن رأي فهو المضطرب الموضوع الذي لم يروه أحد من الأئمة ، فكيف يعارض الأحاديث الصحاح بالضعاف والثقات بالموضوعات ؟ المسألة الخامسة : فإن قيل : فما كانت هذه المراجعة بين الصحابة ؟   [ ص: 611 ] قلنا : هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالرواية ، وقد عدمت ، لا هم إلا أن القاضي أبا بكر  قد ذكر في ذلك وجوها ، أجودها خمسة : 
الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مصلحة ، وفعله أبو بكر  للحاجة . 
الثاني : أن الله أخبر أنه في الصحف الأولى ، وأنه عند محمد  في مثلها بقوله : { يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة    } ; فهذا اقتداء بالله وبرسوله . 
الثالث : أنهم قصدوا بذلك تحقيق قول الله : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون    } ; فقد كان عنده محفوظا ، وأخبرنا أن يحفظه بعد نزوله ، ومن حفظه تيسير الصحابة لجمعه ، واتفاقهم على تقييده وضبطه . 
الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتبه كتبته بإملائه إياه عليهم ، وهل يخفى على متصور معنى صحيحا في قلبه أن ذلك كان تنبيها على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف ، ولو كان ما ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبار الله له بضمان حفظه ، ولكن علم أن حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا . 
الخامس : أنه ثبت { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو   } ; وهذا تنبيه على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار ، هذا من أبين الوجوه عند النظار . 
المسألة السادسة : فأما كتابة عثمان  للمصاحف التي أرسلت إلى الكوفة  والشام  والحجاز  فإنما كان ذلك لأجل اختلاف الناس في القراءات ، فأراد ضبط الأمر لئلا ينتشر إلى حد التفرق والاختلاف في القرآن ، كما اختلف أهل الكتاب  في كتبهم ، وكان جمع أبي بكر  له لئلا يذهب أصله ; فكانا أمرين مختلفين لسببين متباينين . 
وقد كان { وقع مثل هذا الاختلاف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بين  هشام بن حكيم بن حزام  وبين  عمر بن الخطاب   [ ص: 612 ] فاختلفوا في القراءة في سورة الفرقان ، فاحتمل  عمر  هشاما  إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حملا ، حتى قرأ كل واحد منهما ما قرأ بخلاف قراءة صاحبه ، فصوب النبي صلى الله عليه وسلم الكل ، وأنبأهم أنه ليس باختلاف ، إذ الكل من عند الله ، بأمره نزل ، وبفضله توسع في حروفه حتى جعلها سبعة   } ، فاختار عثمان  والصحابة من تلك الحروف ما رأوه ظاهرا مشهورا متفقا عليه مذكورا ، وجمعوه في مصاحف ، وجعلت أمهات في البلدان ترجع إليها بنات الخلاف . 
المسألة السابعة : فأما حال  عبد الله بن مسعود  وإنكاره على زيد  أن يتولى كتب المصاحف ، وهو أقدم قراءة . 
قلنا : يا معشر الطالبين للعلم ، ما نقم قط على عثمان  شيء إلا خرج منه كالشهاب ، وأنبأ أنه أتاه بعلم ، وقد بينا ذلك في كتاب المقسط ، وعند قول  ابن مسعود  ما قال وبلغ عثمان    : قال عثمان    : من يعذرني من  ابن مسعود  ، يدعو الناس إلى الخلاف والشبهة ، ويغضب علي أن لم أوله نسخ القرآن ، وقدمت زيدا  عليه ، فهلا غضب على أبي بكر   وعمر  حين قدما زيدا  لكتابته وتركاه ، إنما اتبعت أنا أمرهما ، فما بقي أحد من الصحابة إلا حسن قول عثمان  وعاب  ابن مسعود    . 
وهذا بين جدا ، وقد أبى الله أن يبقي  لابن مسعود  في ذلك أثرا ، على أنه قد روي عنه أنه رجع عن ذلك وراجع أصحابه في الاتباع لمصحف عثمان  والقراءة به . 


						
						
