المبحث الرابع - بع العرف الذي تحمل عليه الألفاظ  ، إنما هو المقارن السابق دون المتأخر . قال الرافعي    : العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات  ، لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا ولا يؤثر في التعليق والإقرار ، بل يبقى اللفظ على عمومه فيها . 
أما في التعليق فلقلة وقوعه . وأما في الإقرار : فلأنه إخبار عن وجوب سابق ، وربما يقدم الوجوب على العرف الغالب ، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد  ، قبل . 
قال الإمام    : وكذا الدعوى بالدراهم لا تنزل على العادة كما أن الإقرار بها لا ينزل على العادة بل لا بد من الوصف ، وكذا قال  الشيخ أبو حامد  والماوردي  والروياني  وغيرهم ، وفرقوا بما سبق أن الدعوى والإقرار إخبار عما تقدم ، فلا يفيده العرف المتأخر بخلاف العقد فإنه أمر باشره في الحال ، فقيده العرف . 
ولو أقر بألف مطلقة في بلد دراهمه ناقصة  ، لزمه الناقصة في الأصح وقيل يلزمه وافية لعرف الشرع ، ولا خلاف أنه لو اشترى بألف في هذه البلد لزمه الناقصة لأن البيع معاملة والغالب : أن المعاملة تقع بما يروج فيها بخلاف الإقرار . 
 [ ص: 97 ] ومن الفروع المخرجة على هذا الأصل ما سبق في مسألة البطالة ، فإذا استمر عرف بها في أشهر مخصوصة حمل عليه ما وقف بعد ذلك لا ما وقف قبل هذه العادة . 
ومنها : كسوة الكعبة     . نقل الرافعي  عن ابن عبدان  أنه منع من بيعها وشرائها ، وقال  ابن الصلاح    : الأمر فيها إلى رأي الإمام ; واستحسنه النووي  وقال العلائي  وغيره : الذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت بأنها تبدل كل سنة وتؤخذ تلك العتيقة فيتصرف فيها بيعا وغيره ، ويقرهم الأئمة على ذلك في كل عصر فلا تردد في جوازه . 
وأما بعد ما اتفق في هذا القرن : من وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة  ، فلا يتردد في جواز ذلك لأن الوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها . 
ومنها : الأوقاف القديمة المشروط نظرها للحاكم  ، وكان الحاكم إذ ذاك شافعيا ثم إن الملك الظاهر أحدث القضاة الأربعة ، سنة أربع وستين وستمائة ، فما كان موقوفا قبل ذلك اختص نظره بالشافعي فلا يشاركه غيره ، وما أطلق من النظر بعد ذلك فمحمول عليه أيضا لأن أهل العرف غالبا لا يفهمون من إطلاق الحاكم غير  الشافعي    . 
قال السبكي  في فتاويه : ذكر الشيخ برهان الدين بن الفركاح  قال : وقفت على فتيا صورتها : أنه جعل النظر لحاكم دمشق  وكان حينئذ في دمشق  حاكم واحد على مذهب معين ، ثم ولى السلطان في دمشق  أربع قضاة ومات القاضي الذي كان موجودا حين الوقف . وبعد ذلك ولي القضاة الأربعة وأحدهم على مذهب الذي كان حين الوقف أولا . وقد كتب عليها جماعة ، منهم الشيخ زين الدين الفارقي  والصفي الهندي  وآخرون : أنه يختص بذلك الذي هو على مذهب الموجود حين الوقف . 
قال السبكي    : ومستند ذلك أنه لما حصلت التولية في زمن الملك الظاهر حصلت لثلاثة مع القاضي الذي كان حين الوقف ، وذلك القاضي لم ينعزل عن نظره ، ولا جعل الثلاثة مزاحمين له في كل ما يستحق ، بل أفرد هو بالأوقاف ، والأيتام والنواب وبيت المال وجعل الثلاثة مشاركين في الباقي ، كأنهم نواب له في بعض الأشياء ، وفصل الحكومات على مذهبهم ، لا في الأنظار ، ثم لما مات ذلك القاضي تولى واحد مكانه على عادته فينتقل إليه كل ما كان بيد الذي قبله ، ولا يشاركه فيه واحد من الثلاثة . 
قال : وأيضا فإن قول الواقف : النظر للحاكم إن حمل على العموم اقتضى دخول النواب والعرف بخلافه ، فإنما يحمل على المعهود ، والمعهود هو ذلك الشخص والحمل عليه بعيد لأنه لا يدوم فوجب أن يحمل عليه وعلى من كان مكانه ، فكأنه هو بالنوع ، لا بالشخص والذي ولي معه ليس مكانه ولا هو من نوعه ، وإنما أريد بولايته إقامة من يحكم بذلك المذهب المتجدد ، فيما لا يمكن الحاكم المستمر الحكم به ، لكونه خلاف مذهبه ، فلا مدخل للأنظار في ذلك . 
 [ ص: 98 ] قال : فإن قلت : لو قال : لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي  فالأصح أنه لا يتعين ذلك القاضي ، بل قاضي تلك البلد من كان حالة اليمين أو بعدها . 
قلت : نعم . وكذا أقول : لا يتعين قاضي حالة الوقف ، بل هو أو من تولى مكانه والثلاثة لم يولوا مكانه . 
قال : فإن قلت : لو كان حال اليمين في البلد قاضيان ، بر بالرفع إلى من شاء منهما فقياسه إذا شرط النظر للقاضي ، وهناك قاضيان أن يشتركا فيه . 
قلت : المقصود في اليمين : الرفع إلى من يغير المنكر ، وكلاهما يغير المنكر فكل منهما يحصل به الغرض ، والمقصود باشتراط النظر فعل مصلحة الوقف والاشتراك يؤدي إلى المفسدة باختلاف الآراء ، فوجب الصرف إلى واحد وهو الكبير . 
قال : وقد وقع في بعض الأوقاف وقف بلد على الحرم وشرط النظر فيه للقاضي وأطلق ففيه احتمالات : - 
أحدها : أنه قاضي الحرم    . 
والثاني : أنه قاضي البلد الموقوفة قال : وهذان الاحتمالان يشبهان الوجهين في أنه كان اليتيم في بلد وماله في بلد آخر . والأصح عند الرافعي    : أن النظر لقاضي بلد اليتيم ، وعند الغزالي  أنه لقاضي بلد المال فعلى ما قال الرافعي    : يكون لقاضي الحرم    . 
والثاني أن يكون لقاضي بلد السلطان ، كما في اليمين . 
فعلى هذا : هل يكون قاضي بلد السلطان الأصلية التي هي مصر ، أو قاضي البلد التي كان السلطان بها حين الوقف . 
قال : والذي يترجح أن يكون النظر لقاضي البلد الموقوفة ; لأنه أعرف بمصالحها ، فالظاهر أن الواقف قصده وبه تحصل المصلحة ، لا سيما إذا كان السلطان حين الوقف فيها . 
قلت : الظاهر احتمال رابع ، وهو أن يكون لقاضي البلد التي جرى الوقف بها ، والظاهر أنه مراد السبكي  ببلد السلطان بقرينة تشبيهه بمسألة اليتيم ، والله أعلم . 


						
						
