[ ص: 192 ] ومن فروع القسم الثالث : إتلاف مال الغير ،  فلو قدم له غاصب طعاما ضيافة ، فأكله جاهلا  ، فقرار الضمان عليه في أظهر القولين ، ويجريان في إتلاف مال نفسه جاهلا . 
وفيه صور : منها : لو قدم له الغاصب المغصوب منه ، فأكله ضيافة جاهلا  ، برئ الغاصب في الأظهر . 
ومنها : لو أتلف المشتري المبيع قبل القبض جاهلا  ، فهو قابض في الأظهر . 
ومنها : لو خاطب زوجته بالطلاق جاهلا بأنها زوجته  ، بأن كان في ظلمة ، أو نكحها له وليه ، أو وكيله ، ولم يعلم . وقع ، وفيه احتمال للإمام    . 
ومنها : لو خاطب أمته بالعتق ، كذلك قال الرافعي    . 
ومن نظائرها : ما إذا نسي أن له زوجة ، فقال : زوجتي طالق    . ومنها : كما قال ابن عبد السلام    : ما إذا وكل وكيلا في إعتاق عبد ، فأعتقه ظنا منه أنه عبد الموكل ، فإذا هو عبد الوكيل  ، نفذ عتقه . 
قال العلائي    : ولا يجيء فيه احتمال الإمام    ; لأن هذا قصد قطع الملك ، فنفذ . 
ومنها : إذا قال الغاصب ، لمالك العبد المغصوب : أعتق عبدي هذا ، فأعتقه جاهلا ،  عتق على الصحيح . وفي وجه : لا ; لأنه لم يقصد قطع ملك نفسه . 
قلت    : خرج عن هذه النظائر مسألة ، وهي : ما إذا استحق القصاص على رجل ، فقتله خطأ  ، فالأصح : أنه لا يقع الموقع . 
ومن فروع هذا القسم أيضا : محظورات الإحرام ، التي هي إتلاف  ، كإزالة الشعر ، والظفر ، وقتل الصيد . لا تسقط فديتها بالجهل والنسيان . 
ومنها : يمين الناسي والجاهل  ، فإذا حلف على شيء بالله ، أو الطلاق ، أو العتق : أن يفعله ، فتركه ناسيا ، أو لا يفعله ، ففعله ناسيا للحلف ، أو جاهلا أنه المحلوف عليه ، أو على غيره ، ممن يبالي بيمينه ، ووقع ذلك منه جاهلا ، أو ناسيا ، فقولان في الحنث ، رجح كلا المرجحون . ورجح الرافعي  في المحرر عدم الحنث مطلقا ، واختاره في زوائد الروضة والفتاوى . 
قال : لحديث { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان   } وهو عام ، فيعمل بعمومه ، إلا ما دل دليل على تخصيصه ، كغرامة المتلفات ، ثم استثني من ذلك : ما لو حلف لا يفعل عامدا ، ولا ناسيا  ، فإنه يحنث بالفعل ناسيا بلا خلاف ، لالتزام حكمه . هذا في الحلف على المستقبل . 
أما على الماضي ، كأن حلف أنه لم يفعل ، ثم تبين أنه فعله  فالذي تلقفناه من مشايخنا أنه يحنث . 
 [ ص: 193 ] ويدل له قول النووي  في فتاويه : صورة المسألة أن يعلق الطلاق على فعل شيء ، فيفعله ناسيا لليمين ، أو جاهلا بأنه المحلوف عليه    . 
ولابن رزين    : فيه كلام مبسوط ، سأذكره . 
والذي في الشرح والروضة : أن فيه القولين . في الناسي ومقتضاه ، عدم الحنث . وعبارة الروضة : لو جلس مع جماعة ، فقام ولبس خف غيره ، فقالت له امرأته : استبدلت بخفك ، ولبست خف غيرك ، فحلف بالطلاق : أنه لم يفعل  ، إن قصد أني لم آخذ بدله كان كاذبا ، فإن كان عالما طلقت . وإن كان ساهيا ، فعلى قولي طلاق الناسي انتهى 
ولك أن تقول : لا يلزم من إجراء القولين الاستواء في التصحيح ، وابن رزين  أبسط من تكلم على المسألة وها أنا أورد عبارته بنصها ، لما فيها من الفوائد . 
قال : للجهل والنسيان والإكراه حالتان    : إحداهما : أن يكون ذلك واقعا في نفس اليمين أو الطلاق ، فمذهب  الشافعي  أن المكره على الطلاق  ، لا يقع طلاقه ، إذا كان غير مختار لذلك من جهة غير الإكراه ، بل طاوع المكره ، فيما أكرهه عليه بعينه ، وصفته . 
ويستوي في ذلك : الإكراه على اليمين ، وعلى التعليق .  ويلتحق بالإكراه في ذلك : الجهل الذي يفقد معه القصد إلى اللفظ ، مع عدم فهم معناه والنسيان ، وذلك بأن يتلفظ بالطلاق من لا يعرف معناه أصلا ، أو عرفه ، ثم نسيه فهذان نظير المكره ، فلا يقع بذلك طلاق ، ولا ينعقد بمثله يمين . 
وذلك إذا حلف باسم من أسماء الله تعالى ، وهو لا يعرف أنه اسمه    . 
أما إذا جهل المحلوف عليه ، أو نسيه ، كما إذا دخل زيد الدار ، وجهل ذلك الحالف أو علمه ، ثم نسيه فحلف بالله أو بالطلاق    : أنه ليس في الدار فهذه يمين ظاهرها تصديق نفسه في النفي ، وقد يعرض فيها أن يقصد أن الأمر كذلك ( في اعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه أي : لم يعلم خلافه ، ولا يكون قصده الجزم بأن الأمر كذلك ) في الحقيقة ، بل ترجع يمينه إلى أنه حلف أنه يعتقد كذا ، أو يظنه ، وهو صادق في أنه يعتقد ذلك ، أو ظان له ، فإن قصد الحالف ذلك حالة اليمين أو تلفظ به متصلا بها لم يحنث ، وإن قصد المعنى الأول ، أو أطلق ففي وقوع الطلاق ، ووجوب الكفارة قولان مشهوران : مأخذهما : أن النسيان ، والجهل هل يكونان عذرا له في ذلك ، كما كانا عذرا في باب الأوامر والنواهي ، أم لا يكونان عذرا ، كما لم يكونا عذرا في غرامات المتلفات ؟ 
ويقوي إلحاقهما بالإتلافات ، بأن الحالف بالله أن زيدا في الدار ، إذا لم يكن فيها . 
 [ ص: 194 ] قد انتهك حرمة الاسم الأعظم جاهلا ، أو ناسيا ، فهو كالجاني خطأ . 
والحالف بالطلاق إن كانت يمينه بصيغة التعليق  ، كقوله : إن لم يكن زيد في الدار ، فزوجتي طالق  ، إذا تبين أنه لم يكن فيها ، فقد تحقق الشرط ، الذي علق الطلاق عليه ، فإنه لم يتعرض إلا لتعليق الطلاق على عدم كونه في الدار ، ولا أثر لكونه جاهلا ، أو ناسيا في عدم كونه في الدار . 
وأما إذا كان بغير صيغة التعليق ، كقوله لزوجته : أنت طالق ، لقد خرج زيد من الدار . وكقوله : الطلاق يلزمني ليس زيد في الدار . فهذا إذا قصد به اليمين ، جرى مجرى التعليق وإلا لوقع الطلاق في الحال ، وإذا جرى مجرى التعليق ، كان حكمه حكمه . 
والحالة الثانية : الجهل ، والنسيان ، والإكراه ، أن يعلق الطلاق على دخول الدار أو دخول زيد الدار ، أو يحلف بالله لا يفعل ذلك ، فإذا دخلها المحلوف عليه ناسيا ، أو جاهلا ، أو مكرها  ، فإن جرد قصده عن التعليق المحض ، كما إذا حلف لا يدخل السلطان البلد اليوم ، أو لا يحج الناس في هذا العام . فظاهر المذهب : وقوع الطلاق ، والحنث في مثل هذه الصورة . وقع ذلك عمدا ، أو نسيانا ، اختيارا ، أو مع إكراه ، أو جهل . 
وإن قصد باليمين تكليف المحلوف عليه ذلك ، لكونه يعلم أنه لا يرى مخالفته مع حلفه أو قصد باليمين على فعل نفسه ، أن تكون يمينه رادعة عن الفعل ، فالمذهب في هاتين الصورتين أنه لا يحنث إذا فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا إذ رجعت حقيقة هذه اليمين إلى تكليف نفسه ذلك ، أو تكليف المحلوف عليه ذلك ، والناسي لا يجوز تكليفه ، وكذلك الجاهل . 
وأما إن فعله مكرها فالإكراه لا ينافي التكليف ، فإنا نحرم على المكره القتل ونبيح له الفطر في الصوم ، وإذا كان مكلفا - وقد فعل المحلوف عليه - فيظهر وقوع الطلاق والحنث كما تقدم في المسألة الأولى إلحاقا بالإتلاف ، لتحقق وجود الشرط المعلق عليه ، إذ لفظ التعليق عام يشمل فعل المعلق عليه مختارا ، ومكرها وناسيا وجاهلا وذاكرا ليمين وعالما ، وبهذا تمسك من مال إلى الحنث ، ووقوع الطلاق في صورة النسيان والجهل . لكنا إنما اخترنا عدم وقوع الطلاق فيهما ; لأن قصد التكليف يخصهما ، ويخرجهما عن الدخول تحت عموم اللفظ ، فلا ينهض ; لأن مخرج الإكراه لكونه لا ينافي التكليف ، كما ذكرنا هذا ما ترجح عندي في الصورة التي فصلتها ، وبقي صورة واحدة وهي : ما إذا أطلق التعليق ولم يقصد تكليفا ولا قصد التعليق المحض بل أخرجه مخرج اليمين   [ ص: 195 ] فهذه الصورة : هي التي أطلق معظم الأصحاب فيها القولين . 
واختار صاحب المهذب والانتصار والرافعي  ، عدم الحنث وعدم وقوع الطلاق . 
وكان شيخنا  ابن الصلاح    : يختار وقوعه ويعلله بكونه مذهب أكثر العلماء ، وبعموم لفظ التعليق ظاهرا ، لكن قرينة الحث والمنع تصلح للتخصيص وفيها بعض الضعف . 
ومن ثم توقف صاحب الحاوي ، ومن حكى عنه التوقف من أشياخه في ذلك . 
فالذي يقوي التخصيص : أن ينضم إلى قرينة الحث ، والمنع : القصد للحث ، والمنع ، فيقوي حينئذ التخصيص كما اخترناه ، والغالب : أن الحالف على فعل مستقبل من أفعال من يعلم أنه يرتدع منه يقصد الحث أو المنع فيختار أيضا : أن لا يقع طلاقه بالفعل مع الجهل والنسيان ، إلا أن يصرفه عن الحث أو المنع بقصد التعليق على الفعل مطلقا ، فيقع في الصور كلها بوجود الفعل . وأما من حلف على فعل نفسه ، فلا يمتنع وقوع طلاقه بالنسيان أو الجهل إلا عند قصد الحث أو المنع ، انتهى كلامه بحروفه . 
وما جزم به من الحنث في الحالة الأولى وهي : الحلف على الماضي ناسيا أو جاهلا    : ذكره بحروفه القمولي  في شرح الوسيط جازما به ، ونقله عنه الأذرعي  في القوت . 
وقال : إنه أخذه من كلام ابن رزين  ونقل غير واحد أن  ابن الصلاح  صرح بتصحيحه وبتصحيح الحنث في المستقبل أيضا ، فإذا جمعت بين المسألتين حصلت ثلاثة أقوال . 
ثالثها : الحنث في الماضي دون المستقبل ، وهو الذي قرره ابن رزين  ، ومتابعوه ، وهو المختار . 
تنبيه 
من المشكل قول المنهاج : ولو علق بفعله ففعل ناسيا للتعليق أو مكرها  ، لم تطلق في الأظهر أو بفعل غيره ممن يبالي بتعليقه وعلم به ; فكذلك وإلا فيقع قطعا . 
ووجه الإشكال أن قوله " وأن لا يدخل فيه " ما إذا لم يبال بتعليقه ولم يعلم به . وما إذا علم به ولم يبال ، وما إذا بالى ولم يعلم ، والقطع بالوقوع في الثالثة مردود . 
وقد استشكله السبكي  وقال : كيف يقع بفعل الجاهل قطعا ، ولا يقع بفعل الناسي على الأظهر ، مع أن الجاهل أولى بالمعذرة من الناسي ؟ 
وقد بحث الشيخ علاء الدين الباجي  في ذلك هو والشيخ زين الدين الكتاني  في درس ابن بنت الأعز  ، وكان ابن الكتاني  مصمما على ما اقتضته عبارة المنهاج والباجي  في مقابله . 
قال السبكي    : والصواب أن كلام المنهاج محمول على ما إذا قصد الزوج مجرد التعليق ، ولم يقصد إعلامه ليمتنع . 
وقد أرشد الرافعي  إلى ذلك ، فإن عبارته وعبارة النووي  في الروضة : ولو علق بفعل  [ ص: 196 ] الزوجة أو أجنبي  ، فإن لم يكن للمعلق بفعله شعور بالتعليق ، ولم يقصد الزوج إعلامه ففي قوله " ولم يقصد إعلامه " ما يرشد إلى ذلك . 
وقال في المهمات : أشار بقوله " ولم يقصد إعلامه " إلى قصد الحث والمنع ، وعبر عنه به ; لأن قاصده يقصد إعلام الحالف بذلك ليمتنع منه . 
ولهذا لما تكلم على القيود ، ذكر الحث والمنع عوضا عن الإعلام . 
قال : والظاهر أنه معطوف بأو ، لا بالواو ، حتى لا يكون المجموع شرطا ، فإن الرافعي  شرط بعد ذلك ، لعدم الوقوع شروطا ثلاثة : شعوره ، وأن يبالي ، وأن يقصد الزوج الحث والمنع . 
قال : وما اقتضاه كلام الرافعي  من الحنث ، إذا لم يعلم المحلوف عليه ، رجحه الصيدلاني  ، فيما جمعه من طريقة شيخه  القفال  فقال : فإن قصد منعه ، فإن لم يعلم القادم حتى قدم ، حنث الحالف وإن علم به ثم نسي فعلى قولين . 
ومنهم من قال : على قولين بكل حال ، وكذلك الغزالي  في البسيط فقال : إذا علق بفعلها في غيبتها فلا أثر لنسيانها ، وإن كانت مكرهة فالظاهر الوقوع ; لأن هذا في حكم التعليق لا قصد المنع ، ومنهم من طرد فيه الخلاف ، انتهى . 
وخالف الجمهور فخرجوه على القولين :  الشيخ أبو حامد  والمحاملي  وصاحبا المهذب والتهذيب والجرجاني  والخوارزمي  انتهى . 
وقال ابن النقيب    : القسم الثالث وهو : ما إذا بالى ، ولم يعلم ، ليس في الشرح والروضة هنا ، ويقتضي المنهاج : الوقوع فيه قطعا ، فليحرر . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					