فصل وليس للقدرية  أن يحتجوا بالآية لوجوه : منها : أنهم يقولون : فعل العبد - حسنة كان أو سيئة - هو منه لا من الله . 
بل الله قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات . لكن هذا عندهم : أحدث إرادة فعل بها الحسنات . وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات . وليس واحد منهما من إحداث الرب عندهم . والقرآن قد فرق بين الحسنات والسيئات . وهم لا يفرقون في الأعمال بين الحسنات والسيئات إلا من جهة الأمر . لا من جهة كون الله خلق فيه الحسنات دون السيئات . 
بل هو عندهم لم يخلق لا هذا ولا هذا . لكن منهم من يقول : بأنه يحدث من الأعمال الحسنة والسيئة : ما يكون جزاء . كما يقوله أهل السنة   .  [ ص: 247 ] لكن على هذا : فليست عندهم كل الحسنات من الله . ولا كل السيئات . بل بعض هذا وبعض هذا . الثاني : أنه قال { كل من عند الله   } فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله . 
وهم لا يقولون بذلك في الأعمال . بل في الجزاء . وقوله - بعد هذا - { ما أصابك من حسنة   } و { من سيئة   } مثل قوله { وإن تصبهم حسنة   } وقوله { وإن تصبهم سيئة   } 
. الثالث : أن الآية أريد بها : النعم والمصائب . كما تقدم . وليس للقدرية المجبرة  أن تحتج بهذه الآية على نفي أعمالهم التي استحقوا بها العقاب . فإن قوله { كل من عند الله   } هو النعم والمصائب . 
ولأن قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك   }  حجة عليهم . وبيان أن الإنسان هو فاعل السيئات . وأنه يستحق عليها العقاب . والله ينعم عليه بالحسنات - عملها وجزائها   - فإنه إذا كان ما أصابهم من حسنة فهو من الله : فالنعم من الله . سواء كانت ابتداء أو كانت جزاء . 
وإذا كانت جزاء - وهي من الله - : فالعمل الصالح الذي كان سببها : هو أيضا من الله . أنعم بهما الله على العبد . وإلا فلو كان هو من نفسه - كما كانت السيئات من نفسه - لكان كل ذلك من نفسه . والله تعالى قد فرق بين النوعين في الكتاب والسنة . كما في الحديث الصحيح الإلهي : { عن الله يا عبادي إنما هي أعمالكم  [ ص: 248 ] أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها . 
فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه  } وقال تعالى { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم   } وقال تعالى { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون   } وقال تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون   } وقال تعالى { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم   } وقال تعالى { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين   } وقال تعالى { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين   } وقال تعالى للمؤمنين { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون   } وقد أمروا أن يقولوا في الصلاة { اهدنا الصراط المستقيم   } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين   } 
. فصل وقد ظن طائفة : أن في الآية إشكالا أو تناقضا في الظاهر حيث قال { كل من عند الله   } ثم فرق بين الحسنات والسيئات . فقال { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك   } .  [ ص: 249 ] وهذا من قلة فهمهم وعدم تدبرهم الآية . وليس في الآية تناقض . لا في ظاهرها ولا في باطنها . لا في لفظها ولا معناها . فإنه ذكر عن المنافقين والذين في قلوبهم مرض الناكصين عن الجهاد . ما ذكره بقوله { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك   } هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بسبب ما أمرتنا به من دينك والرجوع عما كنا عليه : أصابتنا هذه السيئات . لأنك أمرتنا بما أوجبها . 
فالسيئات : هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب : هو أمرهم بها . وقولهم " من عندك " تتناول مصائب الجهاد التي توجب الهزيمة لأنه أمرهم بالجهاد . وتتناول أيضا مصائب الرزق على جهة التشاؤم والتطير . أي هذا عقوبة لنا بسبب دينك . كما كان قوم فرعون  يتطيرون بموسى  وبمن معه . وكما قال أهل القرية للمرسلين { إنا تطيرنا بكم   } وكما قال الكفار من ثمود  لصالح  ولقومه : { اطيرنا بك وبمن معك   } فكانوا يقولون عما يصيبهم - من الحرب والزلزال والجراح والقتل وغير ذلك مما يحصل من العدو - : هو منك . لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة لذلك . ويقولون عن هذا وعن المصائب السمائية : إنها منك . أي بسبب طاعتنا لك واتباعنا لدينك : أصابتنا هذه  [ ص: 250 ] المصائب كما قال تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة   } 
. فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول وفعل ما بعث به : مسببا لشر أصابه : إما من السماء . وإما من آدمي . وهؤلاء كثيرون . لم يقولوا " هذه من عندك " بمعنى : أنك أنت الذي أحدثتها . فإنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك ولم يكن قولهم " من عندك " خطابا من بعضهم لبعض . 
بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . ومن فهم هذا تبين له أن قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك   } لا يناقض قوله { كل من عند الله   } بل هو محقق له . لأنهم - هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة - يجعلون ما جاء به الرسول والعمل به : سببا لما قد يصيبهم من مصائب . وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة . وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به ويقولون : ليس هذا مما أمر الله به . ولو كان مما أمر الله به : لما جرى على أهله هذا البلاء .  [ ص: 251 ] وتارة لا يقدحون في الأصل . لكن يقدحون في القضية المعينة . فيقولون : هذا بسوء تدبير الرسول . كما قال عبد الله بن أبي ابن سلول  يوم أحد   - إذ كان رأيه مع رأي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرجوا من المدينة   - فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة في الجهاد : أن يخرج . فوافقهم ودخل بيته ولبس لامته . 
فلما لبس لأمته ندموا . وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنت أعلم . فإن شئت أن لا نخرج فلا نخرج . فقال : { ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه  } يعني : أن الجهاد يلزم بالشروع كما يلزم الحج . 
لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز بالإحصار في الحج . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					