القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 4 ] أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم    . 
أولئك هم المؤمنون حقا  أي : لا شك في إيمانهم . 
و : حقا  صفة لمصدر محذوف ، أي : إيمانا حقا أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقا ، كقولك : هو عبد الله حقا . 
قال عمرة بن مرة   ( في هذا الآية ) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب  ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء . انتهى . 
وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقا  من صلة قوله : لهم درجات  بعد ، تأكيدا له ، وأن الكلام تم عند قوله المؤمنون  فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم . 
 [ ص: 2951 ] وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقا . 
قال الطوسي  في ( " نقد المحصل ") : المعتزلة  ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : ( أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى . 
 والغزالي  في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة : 
منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة . 
ومنها : الاحتراز من تزكية النفس . 
ومنها : غير ذلك انظره بطوله . 
وقال ابن حزم  في ( " الفصل ") : القول عندنا في هذه المسألة ; أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد  صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : وأما بنعمة ربك فحدث  
ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى في وقتي هذا . 
ولا فرق بين قوله ( أنا مؤمن مسلم) ، وبين قوله ( أنا أسود أو أنا أبيض) ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد . 
وقول  ابن مسعود   : ( أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات . 
فإنما منع  ابن مسعود  الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح . 
ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء ( إني مؤمن) بمعنى ( مصدق) . 
 [ ص: 2952 ] وأما قول المانعين : ( من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة ) فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك . 
وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ; ولا ندري ماذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم  رحمه الله . 
ولقد أجاد فيما أفاد . 
وقوله تعالى : لهم درجات عند ربهم  أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة ومغفرة  أي : تجاوز لسيئاتهم ورزق كريم  وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة . 
تنبيه : 
قال الجشمي   : تدل الآية على أشياء : 
منها : أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والاعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة  ، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح . 
ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا . 
ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص  ، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك قوله : زادتهم إيمانا  
ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن  التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي . 
ومنها : وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين . 
أما في الدنيا فلا بد من خصال : 
منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرما 
 [ ص: 2953 ] ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرم . 
ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له . 
ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة . 
ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر . 
ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر . 
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا . 
فأما الذي يزعمه بعضهم ; أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء . 
وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة ـ وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال ، وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة . 
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل . 
فأما التوكل في الدين فخصال : 
منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة . 
ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة . 
ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه . 
ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلا . 
ثم قال الجشمي   : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة  لا يكون مؤمنا ، خلاف قول المرجئة   . انتهى . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					