[ ص: 26 ] قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا  
فيه عشر مسائل : 
الأولى : لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله : وآتوا اليتامى أموالهم  وإيصال الصدقات إلى الزوجات ، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه    . فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام    . وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم  الحر الثقة العدل جائزة . واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة  ؛ فقال عوام أهل العلم : الوصية لها جائزة . واحتج أحمد  بأن عمر  رضي الله عنه أوصى إلى حفصة    . وروي عن عطاء بن أبي رباح  أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال : لا تكون المرأة وصيا ؛ فإن فعل حولت إلى رجل من قومه   . واختلفوا في الوصية إلى العبد  ؛ فمنعه  الشافعي   وأبو ثور  ومحمد  ويعقوب    . وأجازه مالك   والأوزاعي   وابن عبد الحكم    . وهو قول  النخعي  إذا أوصى إلى عبده . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " مستوفى . 
الثانية : قوله تعالى : السفهاء قد مضى في " البقرة " معنى السفه لغة . واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء ، من هم ؟ فروى سالم الأفطس  ، عن سعيد بن جبير  قال : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال النحاس    : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وروى إسماعيل بن أبي خالد  ، عن أبي مالك  قال : هم الأولاد الصغار ، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء . وروى سفيان  ، عن حميد الأعرج  ، عن مجاهد  قال : هم النساء . قال النحاس  وغيره : وهذا القول لا يصح ؛ إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات ؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة . ويقال : لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة . وروي عن عمر  أنه قال : من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا ؛ فذلك قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم  يعني الجهال بالأحكام   . ويقال : لا تدفع إلى الكفار ؛ ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع ، أو يدفع إليه مضاربة    . وقال  أبو موسى الأشعري  رضي الله عنه : ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر ) . وهذا جامع . وقال ابن خويز منداد    : وأما الحجر على السفيه  فالسفيه له أحوال : حال يحجر عليه لصغره ، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره ، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله . فأما المغمى عليه فاستحسن مالك  ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به . والحجر يكون مرة في حق الإنسان   [ ص: 27 ] ومرة في حق غيره ؛ فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا . والمحجور عليه في حق غيره  العبد والمديان والمريض في الثلثين ، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج ، والبكر في حق نفسها . فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما . وأما الكبير فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله ، ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه ، فأشبه الصبي ؛ وفيه خلاف يأتي . ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات . واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب ؛ فمنهم من حجر عليه ، ومنهم من لم يحجر عليه . والعبد لا خلاف فيه . والمديان ينزع ما بيده لغرمائه  ؛ لإجماع الصحابة ، وفعل عمر  ذلك بأسيفع جهينة  ؛ ذكره مالك  في الموطأ . والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها  ؛ لأنها لا تحسن النظر لنفسها . حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس ، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع . وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها   . 
قلت : وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره ، فلا يدفع إليه المال ؛ لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها . وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره . والله أعلم . 
واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا ، وهي للسفهاء ؛ فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا ؛ كقوله تعالى : فسلموا على أنفسكم  وقوله فاقتلوا أنفسكم    . 
وقيل : أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم ؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ، ومن ملك إلى ملك ، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم ، وبها قوام أمركم . 
وقول ثان قاله  أبو موسى الأشعري   وابن عباس  والحسن  وقتادة    : ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة ) . قال ابن عباس    : ( لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم ؛ بل كن أنت الذي تنفق عليهم )   . فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان ؛ صغار ولد الرجل وامرأته . وهذا يخرج مع قول مجاهد  وأبي مالك  في السفهاء . 
 [ ص: 28 ] الثالثة : ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه  ؛ لأمر الله عز وجل بذلك في قوله : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم  وقال فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا    . فأثبت الولاية على السفيه  كما أثبتها على الضعيف . وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير ، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه ، والقلم مرفوع عن غير البالغ ، فالذم والحرج منفيان عنه ؛ قاله  الخطابي    . الرابعة : واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه  ؛ فقال مالك  وجميع أصحابه غير ابن القاسم    : إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده . وهو قول  الشافعي   وأبي يوسف    . وقال ابن القاسم    : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام . وقال أصبغ    : إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة ، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام . واحتج سحنون  لقول مالك  بأن قال : لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد . وحجة ابن القاسم  ما رواه  البخاري  من حديث جابر  أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك   . 
الخامسة : واختلفوا في الحجر على الكبير  ؛ فقال مالك  وجمهور الفقهاء : يحجر عليه . وقال أبو حنيفة    : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ؛ فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال ، سواء كان مفسدا أو غير مفسد ؛ لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا ، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا . وقيل عنه : إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا . وهذا كله ضعيف في النظر والأثر . وقد روى  الدارقطني    : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف  أخبرنا حامد بن شعيب  أخبرنا شريح بن يونس  أخبرنا يعقوب بن إبراهيم    - هو أبو يوسف القاضي    - أخبرنا  هشام بن عروة  ، عن أبيه أن عبد الله بن جعفر  أتى الزبير  فقال : إني اشتريت بيع كذا وكذا ، وإن عليا  يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه . فقال الزبير    : أنا شريكك في البيع . فأتى علي  عثمان  فقال : إن ابن جعفر  اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه . فقال الزبير    : فأنا شريكه في البيع . فقال عثمان    : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير  ؟ قال يعقوب    : أنا آخذ بالحجر وأراه ، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه  ، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه   . قال يعقوب بن إبراهيم    : وإن أبا حنيفة  لا يحجر ولا   [ ص: 29 ] يأخذ بالحجر . فقول عثمان    : كيف أحجر على رجل ، دليل على جواز الحجر على الكبير ؛ فإن عبد الله بن جعفر  ولدته أمه بأرض الحبشة  ، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها ، وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر  فسمع منه وحفظ عنه . وكانت خيبر  سنة خمس من الهجرة . وهذا يرد على أبي حنيفة  قوله . وستأتي حجته إن شاء الله تعالى . 
السادسة : قوله تعالى : التي جعل الله لكم قياما  أي لمعاشكم وصلاح دينكم . 
وفي التي ثلاث لغات : التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها . وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات : اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون . وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى . 
والقيام والقوام : ما يقيمك بمعنى . يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته ، وهو الذي يقيم شأنه ، أي يصلحه . ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء . وقراءة أهل المدينة     " قيما " بغير ألف . قال الكسائي  والفراء    : قيما وقواما بمعنى قياما ، وانتصب عندهما على المصدر . أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما . وقال الأخفش    : المعنى قائمة بأموركم . يذهب إلى أنها جمع . وقال البصريون    : قيما جمع قيمة ؛ كديمة وديم ، أي جعلها الله قيمة للأشياء . وخطأ أبو علي  هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم ، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جمع جواد ونحوه . وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك . وقرأ الحسن  والنخعي    " اللاتي " جعل على جمع التي ، وقراءة العامة " التي " على لفظ الجماعة . قال الفراء    : الأكثر في كلام العرب " النساء اللواتي ، والأموال التي " وكذلك غير الأموال ؛ ذكره النحاس    : 
السابعة : قوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم  قيل : معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها . وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر . فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها    . وفي  البخاري  ، عن  أبي هريرة  رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟ فقالوا : يا  أبا هريرة  ، سمعت هذا من   [ ص: 30 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، هذا من كيس  أبي هريرة    !   . قال المهلب    : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع ؛ وهذا الحديث حجة في ذلك . 
الثامنة : قال ابن المنذر    : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له  ولا كسب ؛ فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا ، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن . فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها . وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها . 
التاسعة : ولا نفقة لولد الولد على الجد ؛ هذا قول مالك    . وقالت طائفة : ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم  والمحيض . ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى ، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال ، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم ؛ هذا قول  الشافعي    . وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ؛ على ظاهر قوله عليه السلام لهند    : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف   . وفي حديث  أبي هريرة  يقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟ يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف . ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك ؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها ، بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح  الآية . فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك . وفي قوله : تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني يرد على من قال : لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر ؛ وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم . هذا قول عطاء   والزهري    . وإليه ذهب الكوفيون  متمسكين بقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة    . قالوا : فوجب أن ينظر إلى أن يوسر . وقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم  الآية . قالوا : فندب تعالى إلى إنكاح الفقير ؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح . ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها . والحديث نص في موضع الخلاف . وقيل : الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره ؛ على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال . فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله  ؛ فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة . وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس   [ ص: 31 ] وشهي الطعام والخدم . وإن كان دون ذلك فبحسبه . وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة . فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من بيت المال ؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص . وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به . ولا ترجع عليه ولا على أحد . وقد مضى في البقرة عند قوله : والوالدات يرضعن أولادهن    . 
العاشرة : قوله تعالى : وقولوا لهم قولا معروفا  أراد تليين الخطاب والوعد الجميل . واختلف في القول المعروف ؛ فقيل : معناه ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم وصنع لكم ، وأنا ناظر لك ، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك . وقيل : معناه وعدوهم وعدا حسنا ؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم . ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره ، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك . 


						
						
