( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون    ) . 
قوله تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون    ) . 
اعلم أن قوله : ( ولقد جئتمونا فرادى    ) يحتمل وجهين : 
الأول : أن يكون هذا معطوفا على قول الملائكة : ( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون    ) فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ ، كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى    ) فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم ، وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار ، وعلى هذا التقدير ، فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم ، ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم . 
والقول الثاني : أن قائل هذا القول هو الله تعالى ، ومنشأ هذا الاختلاف أن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا  ؟ فقوله تعالى في صفة الكفار : ( ولا يكلمهم ) يوجب أن لا يتكلم معهم ، وقوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين    ) [ الحجر : 92 ] وقوله : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين    ) [ الأعراف : 6 ] يقتضي أن يكون تعالى يتكلم معهم ، فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف ، والقول الأول أقوى ؛ لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها ، والعطف يوجب التشريك . 
المسألة الثانية : ( فرادى    ) لفظ جمع وفي واحده قولان : 
قال  ابن قتيبة    : فرادى جمع فردان ، مثل سكارى وسكران ، وكسالى وكسلان . 
وقال غيره : فرادى جمع فريد ، مثل ردافى ورديف . 
وقال الفراء    : فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان . 
إذا عرفت هذا فقوله : ( ولقد جئتمونا فرادى    ) المراد منه التقريع والتوبيخ ، وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : 
أحدهما : تحصيل المال والجاه . 
والثاني : أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله  ، ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ، ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه ، بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة ، وتلك   [ ص: 72 ] المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم ، وحضرت معهم في مشهد القيامة ، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى ، بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد . 
ثم قال تعالى : ( لقد تقطع بينكم    ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : قرأ نافع  وحفص  عن عاصم  والكسائي    : ( بينكم ) بالنصب ، والباقون بالرفع ، قال الزجاج    : الرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطع وصلكم ، والنصب جائز ، والمعنى : لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم . 
قال أبو علي    : هذا الاسم يستعمل على ضربين : 
أحدهما : أن يكون اسما منصرفا كالافتراق ، والأجود أن يكون ظرفا ، والمرفوع في قراءة من قرأ : ( بينكم ) هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما ، والدليل على جواز كونه اسما قوله تعالى : ( ومن بيننا وبينك حجاب    ) [ فصلت : 5 ] و ( هذا فراق بيني وبينك    ) [ الكهف : 78 ] فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو " تقطع " في قول من رفع . قال : ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه ، أو يكون الذي هو مصدر ؛ والقسم الثاني باطل ، وإلا لصار تقدير الآية : لقد تقطع افتراقكم ؛ وهذا ضد المراد ؛ لأن المراد من الآية ، لقد تقطع وصلكم ، وما كنتم سالفون عليه . 
فإن قيل : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين ؟ . 
قلنا : هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه ، كقولهم بيني وبينه شركة ، وبيني وبينه رحم ، فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله : ( لقد تقطع بينكم    ) معناه لقد تقطع وصلكم . أما من قرأ " لقد تقطع بينكم " بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل ، والتقدير : لقد تقطع وصلكم بينكم ، وقال  سيبويه    : إنهم قالوا : إذا كان غدا فأتني . والتقدير : إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني ، فأضمر لدلالة الحال . فكذا هاهنا . وقال  ابن الأنباري    : التقدير : لقد تقطع ما بينكم . فحذفت لوضوح معناها . 
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة    : 
فأولها : أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة ، عظمت حسراته ، وقويت آفاته ، حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها ، ثم إنه ضيعها وأبطلها ، ولم ينتفع بها البتة ، وهذا هو المراد من قوله : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة    ) 
وثانيها : أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية ، وكمالا روحانيا ، فقد عملت عملا آخر أردأ من الأول ، وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل المال والجاه ، وفي تقوية العشق عليها ، وتأكيد المحبة ، وفي تحصيلها . والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني ، فهذا المسكين قلب القضية ، وعكس القضية ، وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ، ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية ، فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى ، توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني ، فبقيت الأموال التي اكتسبها ، وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره ، والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به ، وربما بقي   [ ص: 73 ] منقطع المنفعة ، معوج الرقبة ، معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع العجز عن الانتفاع بها ، وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة ، وهو المراد من قوله : ( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم    ) وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات ، فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ، ولكنه قدمها تلقاء وجهه ، كما قال تعالى : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله    ) [ البقرة : 110 ] . 
وثالثها : أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة ، والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة ، فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم ، حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب ؛ منها عذاب الحسرة والندامة : وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء ، ومنها عذاب الخجلة : وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة ، ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم ، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية ، وهو المراد من قوله : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء    ) . 
ورابعها : أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات ، وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات ، فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فهاهنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن . أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع وجبر ذلك النقصان متعذر ، فهاهنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جدا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( لقد تقطع بينكم    ) والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى . وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين    . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					