( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل    ) . 
وأما قوله تعالى ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل    ) . 
فاعلم أن الكتاب هاهنا هو القرآن ، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه ، وإنما خص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال ، لأن التنزيل للتكثير ، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما  ، فكان معنى التكثير حاصلا فيه ، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة ، فلهذا خصهما بالإنزال ، ولقائل أن   [ ص: 137 ] يقول : هذا يشكل بقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب    ) [ الكهف : 1 ] وبقوله ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل    ) [ الإسراء : 105 ] . 
واعلم أنه تعالى وصف القرآن  المنزل بوصفين : 
الوصف الأول : قوله ( بالحق ) قال أبو مسلم    : إنه يحتمل وجوها : 
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة . 
وثانيها : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل . 
وثالثها : أنه حق بمعنى أنه قول فصل ، وليس بالهزل . 
ورابعها : قال الأصم    : المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، وشكر النعمة ، وإظهار الخضوع ، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات . 
وخامسها : أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة ، كما قال : ( أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا    ) [ الكهف : 1 ] وقال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا    ) [ النساء : 82 ] . 
والوصف الثاني لهذا الكتاب : قوله ( مصدقا لما بين يديه    )  والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولما أخبروا به عن الله عز وجل . 
ثم في الآية وجهان : 
الأول : أنه تعالى دل بذلك على صحة القرآن  ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقا لسائر الكتب ، لأنه كان أميا لم يختلط بأحد من العلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئا ، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى . 
الثاني : قال أبو مسلم    : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده  ، والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان ، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك . بقي في الآية سؤالان : 
السؤال الأول : كيف سمى ما مضى بأنه بين يديه ؟ 
والجواب : أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم . 
السؤال الثاني : كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب ، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟  
والجواب : إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن ، كانت موافقة للقرآن ، فكان القرآن مصدقا لها ، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها ، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك ، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل . 

 
				
 
						 
						

 
					 
					