ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر ، وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة .  
وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين ، وفسادهم في الأرض ، وخروجهم عن جادة الإسلام إلى بنيات الطريق التي نبه عليها قول الله تعالى :  وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله      ) .  
وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم ، لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة; منها ما تكلم عليه العلماء ، ومنها ما لم يتكلموا عليه; لأن ذلك حدث بعد موت المجتهدين وأهل الحماية للدين ، فهو باب يكثر التفريع فيه بحيث يستدعي تأليفا مستقلا .  
فرأينا أن بسط ذلك يطول ، مع أن العناء فيه قليل الجدوى في هذه الأزمنة المتأخرة; لتكاسل الخاصة عن النظر فيما يصلح العامة ، وغلبة الجهل على العامة ، حتى إنهم لا يفرقون بين السنة والبدعة ، بل قد انقلب الحال إلى أن عادت السنة بدعة والبدعة سنة ، فقاموا في غير موضع القيام ،      [ ص: 225 ] واستقاموا إلى غير مستقام ، فعم الداء ، وعدم الأطباء ، حسبما جاءت به الأخبار .  
فرأينا أن لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه ، وأن لا نبسط القول فيه ، وأن نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب ، في الإشارة إلى أنواع الأحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في التفصيل ، وبالله التوفيق .  
فنقول : إن القيام عليهم : بالتثريب ، أو التنكيل ، أو الطرد ، أو الإبعاد ، أو الإنكار; هو بحسب حال البدعة في نفسها; من كونها : عظيمة المفسدة في الدين ، أو لا ، وكون صاحبها مشتهرا بها أو لا ، وداعيا إليها أو لا ، ومستظهرا بالأتباع أو لا ، وخارجا عن الناس أو لا ، وكونه عاملا بها على جهة الجهل أو لا .  
وكل هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصه ، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، كما جاء في كثير من المعاصي; كالسرقة ، والحرابة ، والقتل ، والقذف ، والجراح ، والخمر . . . . وغير ذلك .  
لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل ، وحكموا باجتهاد الرأي; تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص; كما جاء في  الخوارج   من الأثر بقتلهم ، وما جاء عن   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه في  صبيغ العراقي .  
فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع :  
أحدها :  الإرشاد ، والتعليم ، وإقامة الحجة      ; كمسألة   ابن عباس   [ ص: 226 ] حين ذهب إلى  الخوارج ،   فكلمهم ، حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف ، ومسألة   عمر بن عبد العزيز  مع  غيلان ،  وشبه ذلك .  
والثاني : الهجران ، وترك الكلام والسلام; حسبما تقدم عن جملة من السلف في  هجرانهم لمن تلبس ببدعة   ، وما جاء عن  عمر  رضي الله عنه من قصة  صبيغ     .  
والثالث : كما  غرب  عمر  صبيغا   ، ويجري مجراه السجن ، وهو :  
الرابع : كما  سجنوا  الحلاج  قبل قتله سنين عدة      .  
والخامس :  ذكرهم بما هم عليه ، وإشاعة بدعتهم      ; كي يحذروا; ولئلا يغتر بكلامهم; كما جاء عن كثير من السلف في ذلك .  
السادس :  القتل إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم      ; كما قاتل  علي  رضي الله عنه الخوارج وغيره من خلفاء السنة .  
والسابع :  القتل إن لم يرجعوا من الاستتابة ، وهو قد أظهر بدعته ، وأما من أسرها وكانت كفرا أو ما يرجع إليه; فالقتل بلا استتابة   ، وهو الثامن; لأنه من باب النفاق ، كالزنادقة .  
والتاسع :  تكفير من دل الدليل على كفره      ; كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر;  كالإباحية   ، والقائلين بالحلول;  كالباطنية ،   أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل ، فذهب المجتهد إلى التكفير;  كابن الطيب  في تكفيره جملة من الفرق ، فينبني على ذلك :  
الوجه العاشر : وذلك  أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين   ، ولا يرثون أحدا منهم ، ولا يغسلون إذا ماتوا ، ولا يصلون عليهم ، ولا يدفنون في مقابر      [ ص: 227 ] المسلمين; ما لم يكن مستترا; فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر ، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث .  
والحادي عشر :  الأمر بأن لا يناكحوا   ، وهو من ناحية الهجران ، وعدم المواصلة .  
والثاني عشر :  تجريحهم على الجملة ، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم   ، ولا يكونون والين ولا قضاة ، ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة; إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم ، واختلفوا في  الصلاة خلفهم   من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه .  
والثالث عشر :  ترك عيادة مرضاهم   ، وهو من باب الزجر والعقوبة .  
والرابع عشر :  ترك شهود جنائزهم   كذلك .  
والخامس عشر : الضرب كما ضرب  عمر  رضي الله عنه  صبيغا     .  
وروي  عن  مالك  رضي الله عنه في القائل بالمخلوق : " أنه  يوجع ضربا ويسجن   حتى يموت     " .  
ورأيت في بعض تواريخ  بغداد   عن   الشافعي     : أنه قال : " حكم في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ، ويحملوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأخذ في الكلام; يعني : أهل البدع "     .  


						
						
