فصل .
قال الرافضي [1] : " وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس ، لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر [2] بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرار في غزواته ، وأيما أفضل : القاعد عن القتال ، أو المجاهد بنفسه [3] في سبيل الله ؟ " .
الجواب : أن يقال لهذا المفتري الكذاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه [4] :
[ ص: 535 ] أحدها : أن قوله " هرب عدة مرار في غزواته " يقال له : هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله ، والجهل بذلك غير منكر من الرافضة ، فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول ، وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها وتكذيبا بالصدق منها .
وذلك أن غزوة بدر هي أول مغازي القتال لم يكن قبلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر غزاة مع الكفار أصلا ، وغزوات القتال التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات : بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وغزوة ذي قرد وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف ، وأما الغزوات التي لم يقاتل فيها فهي نحو بضعة عشر ، وأما السرايا فمنها ما كان فيه قتال ، ومنها ما لم يكن فيه قتال .
وبكل حال فبدر أولى [5] مغازي القتال باتفاق الناس ، وهذا من العلم الذي يعلمه كل من له علم بأحوال الرسول من أهل التفسير والحديث والمغازي والسير والفقه والتواريخ والأخبار ، يعلمون أن بدرا هي أول الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس قبلها غزوة ولا سرية كان فيها قتال ، إلا قصة ابن الحضرمي [6] ، ولم يكن فيها أبو بكر .
[ ص: 536 ] فكيف يقال : إنه هرب قبل ذلك عدة مرار [7] في مغازيه ؟ ! .
الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط حتى يوم أحد لم ينهزم لا هو ولا عمر وإنما كان عثمان تولى ، وكان ممن عفا الله عنه ، وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط إنهما انهزما مع من انهزم ، بل ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين كما تقدم ذلك عن أهل السيرة [8] ، لكن بعض الكذابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حنين ، فرجعا ولم يفتح عليهما ، ومنهم من يزيد في الكذب ويقول : إنهما انهزما [ مع من انهزم ] [9] ، وهذا كذب كله .
وقبل أن يعرف الإنسان أنه كذب ، فمن أثبت ذلك عليهما هو المدعي لذلك فلا بد من إثبات ذلك بنقل يصدق ، ولا سبيل إلى هذا فأين النقل المصدق على أبي بكر أنه هرب في غزوة واحدة ، فضلا عن أن يكون هرب عدة مرات ؟ ! .
الثالث : أنه لو كان في الجبن بهذه الحال [10] لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه بأن يكون معه في العريش ، بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو ، فإنه لا ينبغي للإمام أن ( * يستصحب منخذلا [11] ولا مرجفا ، فضلا عن أن * ) [12] يقدم [13] على سائر أصحابه ، ويجعله معه في عريشه .
[ ص: 537 ] الرابع : أن الذي في الصحيحين من ثباته وقوة يقينه في هذه الحال يكذب هذا المفتري ، ففي الصحيحين عن ابن عباس عن عمر قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) [ سورة الأنفال : 9 ] الآية ، وذكر الحديث [14] .
الخامس : أن يقال : قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم ، فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدا ثابتا [15] مقداما شجاعا ، لم يعرف قط أنه جبن عن قتال عدو ، بل لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفت قلوب أكثر الصحابة ، وكان هو الذي يثبتهم حتى قال أنس : " خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود " .
وروي أن عمر قال : يا خليفة رسول الله تألف الناس ، فأخذ بلحيته [ ص: 538 ] وقال : يا ابن الخطاب : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟ ! علام أتألفهم : على حديث مفترى أم على شعر مفتعل ؟ ! .
السادس : قوله : " أيما أفضل : القاعد عن القتال ، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله ؟ ! .
فيقال : بل كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال هو من أفضل الجهاد فإنه هو الذي كان العدو يقصده ، فكان ثلث العسكر حوله يحفظونه من العدو ، وثلثه اتبع المنهزمين وثلثه أخذوا الغنائم ، ثم إن الله قسمها بينهم كلهم .
السابع : قوله : " إن أنس النبي صلى الله عليه وسلم بربه كان مغنيا له عن كل أنيس " .
فيقال : قول القائل : إنه كان أنيسه في العريش ، ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ، ومن قاله ، وهو يدري ما يقول ، لم يرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش ، بل المراد أنه كان يعاونه على القتال ، كما كان من هو دونه يعاونه على القتال .
وقد قال تعالى : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ سورة الأنفال : 62 ] وهو أفضل [16] المؤمنين الذين أيده الله بهم .
وقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) [ سورة النساء : 84 ] ، وكان الحث على أبي بكر أن يعاونه بغاية ما يمكنه وعلى الرسول أن يحرضهم على الجهاد ، ويقاتل بهم عدوه [ ص: 539 ] بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة [ به ] [17] على الجهاد .
الثامن : أن يقال \ : [ من ] [18] المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب ، الذي قد قصده أعداؤه يريدون قتله ، إذا أقام في عريش ، أو قبة أو حركاة ، أو غير ذلك مما يجنه [19] ، ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا ، وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به ، وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به .
وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته ، لا مع ضعفه وخوره .
فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا ، وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا .
قال تعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) إلى قوله : ( وأولئك هم الفائزون ) [ سورة التوبة : 19 ، 20 ] فهؤلاء أعظم درجة عند الله من أهل الحج والصدقة ، والصديق أكمل في ذلك .
وأما قتال علي بيده فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة [20] الذين قاتلوا يوم بدر ، ولم يعرف أن عليا قاتل أكثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك .
[ ص: 540 ] ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره ، وفضيلة علي مشتركة بينه وبين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
الوجه التاسع : أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش ، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال الله فيها : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) [ سورة الأنفال : 17 ] والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبد الرحمن : قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك ، فقال : لكني لو رأيتك لقتلتك .



