وإذا قال القائل : إن أتباع  أبي بكر   وعمر  رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك . 
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة  ، فإنهم يقولون : إن أتباع  أبي بكر   وعمر  كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما[1] أفضل من الشيعة  الذين بايعوا [2]  عليا   . 
وإذا [3] كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة  علي  ، دل ذلك على أنهما أفضل منه . 
وإن قالوا : إن  عليا  إنما لم ينتصر ; لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه . 
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة   : ( إن ) [4] الذين بايعوا  عليا  وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع  أبا بكر   وعمر  وأقر بإمامتهما  ، فإذا كان أولئك الشيعة  الذين بايعوا ( عليا ) [5] عصاة للإمام المعصوم كانوا من أشر [6]  [ ص: 472 ] الناس ، فلا يكون في الشيعة  طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون  علي  مع الشيعة  قادرا على قهر الكفار . 
وبالجملة فلا بد من [7] كمال حال  أبي بكر   وعمر  وأتباعهما ، فالنقص [8] الذي حصل في خلافة  علي  [9] من إضافة ذلك إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع . 
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون  أبو بكر   وعمر  وأتباعهما أفضل من  علي  وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما [10] أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة  أفضل من الشيعة  ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ; لأنه ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول . 
وهذا بين لمن تدبره ، فإن الذين بايعوا  أبا بكر   وعمر   وعثمان  رضي الله عنهم ، وقاتلوا معهم هم أفضل من الذين بايعوا  عليا  وقاتلوا معه ، فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين  والأنصار  ، والذين اتبعوهم بإحسان * رضي الله عنهم ورضوا عنه * [11]  . 
 [ ص: 473 ] وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفي منهم أو قتل في حياته قليل منهم . 
والذين بايعوا  عليا  كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع  أبا بكر   وعمر   *  وعثمان  ، وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ، ولم يقاتل معه  كسعد بن أبي وقاص  ،  وأسامة بن زيد  ،  وابن عمر   * [12] ،  ومحمد بن مسلمة  ،  وزيد بن ثابت  ،  وأبي هريرة  ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان . 
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع  طلحة  ،  والزبير  ،  وعائشة  ،  ومعاوية  من السابقين والتابعين . 
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا  عليا  وقاتلوا معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ; لأن  عليا  كان موجودا على عهد الثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره - كما تقوله الرافضة   - أو كان أفضل وأحق بها - كما يقوله من يقوله من الشيعة   - لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم [13] الله به ، ورسوله به [14] إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما [15] نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا  عليا  ، وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به . 
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه ، وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة  حقا أن يكون أتباع  علي   [ ص: 474 ] أفضل ، وإذا [16] كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير [17] أفضل مما فعله الثلاثة . 
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به [18] الأخبار ، وعلمته البوادي والحضار ، فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ، ونموه [19] ، وانتصاره ، وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر [20] بعدهم مثله . 
 وعلي  رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة ، وفضائله العديدة ، لا بما جرى في * زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف  أبي بكر   وعمر   وعثمان  ، فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في * [21] خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة . 
وكان  أبو بكر   وعمر  أفضل سيرة وأشرف سريرة من (  عثمان   )  وعلي   [22] رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا أبعد عن الملام ، وأولى بالثناء العام حتى لم يقع [23] في زمنهما شيء من الفتن ، فلم يكن للخوارج  في زمنهما لا قول مأثور ، ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال ، وأهل الكفر في إدبار . 
 [ ص: 475 ] ثم إن الرافضة   - أو أكثرهم - لفرط جهلهم ، وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود  والنصارى  كانوا خيرا منهم ; لأن الكافر الأصلي خير من المرتد ، وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين . 
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين  هاجروا من مكة  وغيرها إلى المدينة  ، وهاجر طائفة منهم  كعمر   وعثمان   وجعفر بن أبي طالب  هجرتين : هجرة إلى الحبشة  ، وهجرة إلى المدينة  ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة  ، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون   ) ( سورة الحشر : 8 ) . 
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره ، * ولا ألجأهم إليه أحد ، فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره * [24] به أحد على الإسلام [25] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك - هو ومن اتبعه - منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم  [ ص: 476 ] أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره . 
ولهذا قال  أحمد بن حنبل  وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين  من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار  لما ظهر الإسلام بالمدينة  ، ودخل فيه من قبائل الأوس  والخزرج  ، و ( لما ) صار [26] للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة  ، وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين . 
كما قال تعالى : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين   ) ( سورة التوبة : 101 ) . 
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة  لم يكن فيهم منافق  ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم ، وأهلهم ، وأموالهم . 
وإذا كان كذلك علم أن رميهم - أو رمي أكثرهم أو بعضهم - بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة  من أعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة  وإخوانهم من اليهود  ، فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة  إخوان اليهود  ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية  ، والإسماعيلية  ، وأمثالهم ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا ، وزندقة ، وعداوة لله ولرسوله [27]  . 
 [ ص: 477 ] وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم [28] الأقوال بهتانا ، فإن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة ، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى  ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟ ! 
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة ، أو مال ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع فمن [29] خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ورسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟ ! 
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوي المقتضي للموالاة ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟ ! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالا ؟ 
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له ، وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى ؛ لكثرة أعدائه ، وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه [30] وكانت قدرة من يعاديه [31] باليد واللسان حينئذ [32] أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس ،  [ ص: 478 ] ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن ، ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضي للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف ، ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير [33] إرادته أو قدرته . 
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ، ولا قدرتهم ، فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد ( عندهم ) [34] ما يوجب الردة عن دينهم البتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة  وأهل نجد  ، فأما المهاجرون  الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم - ولله الحمد - أحد ، وأهل مكة  لما أسلموا بعد فتحها هم طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله  بسهيل بن عمرو   . 
وأهل الطائف   لما حاصرهم [35] النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة  ، ثم رأوا ظهور الإسلام فأسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم [36] الله بعثمان بن أبي العاص   . 
فأما أهل مدينة   النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون  منهم ، والأنصار  ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة   أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله ، وقواهم  بأبي بكر الصديق  رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ،  [ ص: 479 ] وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . 


						
						
