 
  ثبت في الحديث عن  ابن عباس  - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بعث  معاذاً  إلى اليمن وقال له :   ( اتق دعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )   رواه البخاري ومسلم .
 معنى الحديث :  
لما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى أهل اليمن لدعوتهم ، أرشده إلى بعض القواعد المهمة لدعوة الناس إلى الحق الذي جاء به ، وكان مما جاء في إرشاده خطابه  لمعاذ  - رضي الله عنه - للتركيز على وضع أسس العدل بين أفراد المجتمع ، والتحذير من دعوة المظلوم ؛ لأن دعوته لا تُرد ، كما جاء في التعبير النبوي :  (..ليس بينها وبين الله حجاب )  ، فالطريق أمامها مفتوح غير موصد ، لا يصُدّها صادّ ، ولا يمنعها مانع .
 دعوة المظلوم 
أشار هذا الحديث العظيم إلى قضية جوهرية لها أعظم الأثر في مسيرة الدعوة ، ألا وهي قضية الحرص على تحقيق مبدأ العدل ، والتحذير من مقارفة الظلم ،نجد ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :   ( واتق دعوة المظلوم )   ومعناها : احذر دعوة المظلوم ، واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل وترك الظلم ، ثم جاء البيان بعظم شأنها عند الله بقوله :   ( فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )   ، أي : ليس لها ما يصرفها ولو وُجد في المظلوم مانع من موانع الإجابة ، كأن يكون مطعمه حراماً أو غير ذلك ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم :   ( ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن : دعوة المظلوم.. )   رواه ابن ماجه ، وليس شرطاً أن يكون المظلوم مؤمناً ، فدعوة الكافر المظلوم تصعد إلى الله تعالى ؛ لأن كفره على نفسه كما جاء في رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - :  ( دعوة المظلوم وإن كان كافرا ليس دونها حجاب )  رواه أحمد في مسنده . 
وفي الحديث إشارة إلى بيان دعوة المظلوم عند الله تعالى ، لا سيما وأنه تكفّل بنصرته كما جاء في الحديث :  ( اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين )   رواه  الطبراني  ، والتاريخ مليء بصفحات أمم سادت ثم بادت ، وما أطاح عروشها إلا دعوات المظلومين والمعذبين ، هذا فرعون تمادى في طغيانه ، وتجبّر في ملكه ، فأذاق بني إسرائيل صنوف العذاب ، وقتّل أبناءهم واستحيى نساءهم ، فما كان من  موسى  - عليه السلام - إلا أن أوضح لقومه سبيل النصر على العدو ، فقال لهم : {استعينوا بالله واصبروا }  ( الأعراف:128 ) ، فأمرهم باللجوء إلى الله تبارك وتعالى ، ولم يكتف بالقول ، بل أتبعه بالفعل كي يقتدي به قومه ، فرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى ، واجتهد في الدعاء على فرعون وأعوانه ، كما قال تعالى : { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم }  ( يونس:88 ) ، فأجاب الله دعاءه ، فما كان جزاء فرعون ؟ أغرقه الله هو وجنوده في اليم ، وما نفعه ملكه ولا جبروته ، هذا جزاؤه في الدنيا ، أما في الآخرة فليس له إلا النار ، قال تعالى : { النار يعرضون عليها غدواً وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }  ( غافر:46 ) .
وخذ مثلاً آخر ، فقد اشتهر أهل مدين بتطفيف الكيل ، وبخس الناس أشياءهم ، وبالرغم من ذلك فإنهم يستوفون حقهم كاملاً إذا اكتالوا ، فحذّرهم شعيب - عليه السلام - من هذا الفعل الدنيء فقال لهم : {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين }  ( الشعراء: 181-183 ) ، فسخروا منه واستهزؤوا ، وتهددوا وتوعدوا ، فاستنصر ربّه عليهم ، ودعا قائلاً : {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }  ( الأعراف:89 ) ، فاستجاب الله دعاءه ، فأرسل عليهم حراً شديداً لا يرويه ظمأ ، ولا يخففه ظلال ، ثم بعث عليهم سحابةً عظيمة فيها شرر ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفلهم ، فلم يغن عنهم سلطانهم ولا ملكهم ، فهذه الأمثلة وغيرها تبيّن عظم هذه القضيّة وشأنها عند الله تعالى .
 الظلم وحقيقته :  
والظلم من الصفات الدنيئة والأخلاق الرذيلة ، ولهذا نزّه الله سبحانه وتعالى نفسه عنه ، فقال :  { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون }   ( يونس:44 ) ، بل وحرمه تعالى على نفسه ، كما في الحديث القدسي :  ( يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا )   رواه  مسلم  ، ثم إن الظلم من أعظم البلايا التي ابتُليت بها البشرية ، وهو شقاء على الفرد والمجتمع معاً ، وما من مصيبة تقع على مستوى الأفراد والشعوب إلا وكان الظلم سببها ، وقد قرر القرآن هذه الحقيقة وبيّن أن سبب هلاك القرى والأمم ظلم أهلها ، قال الله تعالى : { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون }  ( القصص:59 ) ، وقال أيضاً : {وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون }  ( هود:117 ) .
وكان من سنن الله الكونية - كما قال شيخ الإسلام  ابن تيمية  - خذلان الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ، و نصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ؛ فالعدل والحق هو الأساس الذي قامت عليه السموات والأرض ، يقول الله عزوجل :  { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى }   ( الأحقاف:3 ) . 
والمتدبر لكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يجد نصوصاً كثيرةً قد ذمّت الظلم وأهله وحذّرت العباد منه ، وقد ذكر الله تعالى الظلم في أكثر من مائتين وأربعين موضعاً ، محذرًا منه بأساليب مختلفة واشتقاقات متنوعة ، فتارةً بتنـزيه الله تعالى نفسه عن هذه الصفة ، قال تعالى :  { وما ربك بظلام للعبيد }   ( فصلت:46 ) ، وتارة بالأمر بالعدل مع الناس كلهم حتى مع غير المسلمين ، قال عزوجل :  { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى }   ( النحل:90 ) وقال :   { ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى }   ( المائدة:8 ) ، وأحيانا يأتي ذم الظلم بذم أهله مقروناً بمقت الله لهم ، كقوله تعالى :   { وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما }   ( طه:111 ) ، ووصف سبحانه ما دون الشرك من المعاصي بالظلم فقال سبحانه :  { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }   ( الأعراف:23 ) 
وأما السنة - فإضافةً إلى الحديث الذي بين أيدينا - فقد جاء فيها الكثير من الأحاديث الشريفة التي تنفّر من هذا الخلق الذميم ، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال :   ( اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )  رواه مسلم ، وأصّل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة في نفوس أصحابه الكرام ، وبيّن لهم أنها من سنن الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل ، فنهى عن الظلم ، وذكر قصص الأمم السابقة التي كانت ظالمة ، فلقيت جزاء ظلمها في الدنيا قبل الآخرة.
وللظلم عواقب سيئة على الأفراد خاصةً والشعوب عامةً ، فلا تستقيم الحياة بدون عدل ؛ لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ترسيخ هذا المبدأ لمعاذ ، وأرشده اتقاء دعوة المظلوم ، كما ورد عنه في دعائه :  (...وأعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلم )  ، نسأل الله تعالى أن يجيرنا من الظلم وأهله ، والحمد لله أولا وآخرا.

 
				 المقالات
 المقالات 
        						 
						 
						

 
					 
					